عائداً إلى منزله وهو في شدة الإنهاك من التعب ، يوم أخر مضى ككل يوم يمضي بلا هدف ، متحسراً على تلك الأيام حين كانت لأحلامه معنى وسبل للتحقيق على أرض الواقع ،
شرد قليلاً على الرغم من إستحالة ذلك في تلك الحافلة المتهالكة التي تعج بالبشر ورائحة العرق والتلاحم تزكم الأنوف ، وبرغم كل ذلك وكإنها محاولة للهروب أخذ يسترجع طموحه وهو طفل صغير حينما كان هدفه الأسمى الحصول على الدرجة النهائية وعلامة النجمة مؤشر التميز ليفوز بتلك المنحة من والده وهي الذهاب إلى السينما لحضور عرض إحدي الأفلام الأجنبية الخيالية التي تتحدث عن العصر الجوراسي ليشاهد الزاحف المجنح والتي ركس ، كان يغوص داخل تلك الأفلام ويخلق لنفسه عوالم أخرى هرباً من المشكلات العارمة التي تواجهه والمسئوليات الهائلة الملقاة على عاتقه والتي كانت محصورة بداية بين
من أخذ كرات البلي المحببة له ذات اللون الأزرق من زملاؤه دون أن يشعر
ونهاية بضرورة الإنتهاء من فروض الواجبات المدرسية إستعداداً لتسميع درس الغد ،
أبتسم في مرارة وهو يتذكر كيف كان يتخيل أن تلك اللحظات هي نهاية العالم وتمنى لو قفز به العمر ليكون من الكبار الذين أنتهوا من المذاكرة ويستطيعون مشاهدة التلفاز في أي وقت يشاؤون.
أفاق من شروده على تصاعد الصياح بين أثنين من الركاب المحتدين في النقاش ليؤكد أحدهما أن ما يحدث هراء وسيسبب الخراب للبلد في حين يقاطعه الثاني بأنه (لا مؤاخذة حمار) لايفقه شيئاً والبلد قد خربت بالفعل ولابد من التحرك للأمور ووضعها في نصابها الصحيح ، ينظر لهما بعين تكاد تطبق من شدة الحاجة إلى النوم بعد العودة من العمل الإضافي والذي يستمر للعاشرة مساءاً في أحد المحال التجارية ليتناول وجبته الأساسية ضارباً بكل قواعد التغذية السليمة عرض الحائط ويأخذ حمامه السريع لينعم بعده في حوالي الساعة الواحدة صباحاً بسويعات قليلة من النوم تكاد تكفيه بالكاد للإستيقاظ في الساعة الخامسة فجراً ليتوجه إلى عمله الصباحي كفرد أمن بإحدى الشركات من الساعة السادسة وهكذا تدور الدائرة
ليسقط يوم الخميس صريع الفراش زاهداً في أي متعة حسية قد يظفر بها مع زوجته أم أولاده الثلاث ، والتي تعمل بدورها من خلال المنزل على حياكة وتصليح الملابس للمجاورين وتنظيف الخضار وتجهيزه للطبخ للعاملات منهم مقابل مبالغ زهيدة تساعد بها في مصروف البيت لتفقد هي الأخرى نتيجة الضغوط والإنكباب على ماكينة الحياكة أي رغبة جسدية خاصة مع تلبية مطالبه ومطالب
الأولاد من مأكل وملبس ، في وسط الصياح يسمع أحد المحشورين بجانبه يوجه حديثه إليه وهو يمصمص شفتيه قائلاً:
“لا حول ولاقوة إلا بالله ، الناس حتاكل بعضها من غلو العيشة ، ربنا يرحمنا برحمته”
ويكمل جملته بتنهيدة ليهز هو رأسه له بإشارة بلا معنى ، فليذهب الجميع بعباراتهم السفسطائية إلى الجحيم ، فهو لا يملك البال الرائق لتلك المهاترات المهم أن يعود إلى البيت ليلقى مرتب الشهر لزوجته لتتولى سداد فواتير المياه والكهرباء المضاعفة والهاتف الذي لم يعد يستخدم ناهيك عن إيجار المسكن ومصاريف الدروس الخصوصية لأولاده الأكبر في نهاية المرحلة الإبتدائية والأوسط في الصف الثالث الإبتدائي ، فضلاً عن إحضار الحفاضات واللبن المدعم إن وجد للرضيع الصغير ، فإن كان يجرؤ أحد على سداد تلك الإلتزامات الأولية عوضاً عنه فسيأتي له بالبال الرائق للحديث عن أحوال البلد وأي الفريقين أصوب .
يعبر الرجل من خلفه في رفق ليسأله بأدب جم أن يعطيه مساحة للنزول ليتصاعد من الناحية الأخرى للحافلة صوت أنثوى حاد يهتف :
“جرا إيه يا راجل يا ناقص عمال تتلزق فيا ، أجيلك كدا تجيلي كدا”
ليرد عليها صوت ذكوري خشن :
“فيه إيه يا ولية هو حد كلمك ولا جه جنبك ، ولو مش عاجبك ياختي إنزلي خديلك تاكسي محدش قالك إركبي أوتوبيس زحمة ، ولا أنتي جاية هنا لمزاجك”
ليتصاعد الصوت الأنثوي في حدة أكثر مليئة بالغضب :
“أنا طالعة لمزاجي يا ناقص يا عرة الرجالة ، طب وكتاب الله مانا سايباك غير في القسم”
ليرتفع بعدها صيحات من الركاب والمحصل تطالب بتهدئة الوضع وفض الأشتباك مابين مؤيد ومعارض وإن كان هو لم يرى أيهما من شدة الزحام ، يلمح بطرف عينه وسط حشود البشر محطته ليرفع عقيرته منادياً السائق :
“المحطة الجاية معاك ياسطى”
ويعبر وسط أكوام اللحم المتلاصق والذي أوشك على الإندماج ليهبط من باب الحافلة التي هدئت من سرعتها دون أن تتوقف ليقفز منه على الأرض ليجد نفسه بداخل بركة من الماء ناتجة عن إنسداد الصرف الصحي بالشارع فيبتل حذائه وبنطاله بالماء الأسن فيطلق السباب المقذع للسائق الذي أستمر بالسير وسط تصاعد المزيد من البشر
يسير في إتجاه المنزل وقد قارب على السقوط مغشياً عليه وهو يشعر بأن هناك شيء ما ليس على مايرام يتوجه إلى البقالة المجاورة لشراء بعض المستلزمات الأسبوعية من طعام فلا يجد حافظته ويذكر على الفور ذلك الرجل ذو الأدب الجم ويتخيله يضحك في تهكم له وهو يلوح بحافظته صائحاً:
“هههههههههه .. أما مغفل”
يشعر بإختناق وقد أغرورقت عيناه بالدموع على الرغم منه وشعر بأن الأرض تميد به ، فسار بخطوات مثقلة كمن يحمل أطناناً ، ولم يدري ماذا يفعل .
جلس على الرصيف بجوار محل البقالة ينظر للمارة وإن لم يكترث أحدهم له في الواقع فقد بدا على كل منهم السير شارداً في مسئولياته أو يحدث نفسه عن كيفية حل مشكلاته وهمومه.
تناهي إلى مسامعه صوت التلفاز من محل البقالة ليميز صوت ذلك الإعلامي الشهير يصرخ :
“اللي حيحصل بكره ده تهريج .. وتعطيل لمصالح البلد .. محدش حاسس بالغلابة”
ويقطع حديثه وهو يرشف رشفة من كوب العصير الفاخر الموضوع أمامه ويعدل ربطة عنقه الباهظة الثمن والتي يتماشى لونها مع لون البدلة التي يرتديها والتي يكفي ثمنها في الواقع لإدخال السعادة على قلب سكان شارعه بأكمله ويكمل حديثه قائلاً:
“الحكومة عندها غلطات بس مش ده الحل .. كفاية بقى تقطيع في البلد .. البلد مش آد خساير إقتصادية تاني .. الناس مش لاقية تاكل”
ويقاطعه إتصال لإحدى الفنانات والتي تعقب بعد تقديم نفسها
وتحيتها لجمهورها الوفي :
“أنا بناشد جمهوري الحبيب لو حابين يخرجوا ..يخرجوا بس في مظاهرة حب للبلد .. الناس البسيطة الجميلة لو كل واحد إشترى بوكيه ورد وخرج بيه مش حيكلفه أكتر من خمسين جنيه وحيبقى منظرنا حضاري وحنثبت للعالم كله إننا ..”
لم يكمل حديثها فقد أستوقفه حديث أحد الزبائن مع صاحب محل البقالة ليطلب منه بخمسة جنيهات جبن أبيض ونصف كيلو لبن وباكو شاي لعشاء أسرته ويسأل في إستحياء عن كيس سكر ذو الخمسة جنيهات فيجيب صاحب البقالة في غلظة أنه لا يوجد لديه سوى ذو العشرة جنيهات ويجب حجزه قبلها بيومين
يعيد بصره للتلفاز مرة أخرى ليجد الإعلامي يعرض صوراً لتوافر السلع الأساسية بكل المحافظات بأسعار أقل من المدعمة ولقاء مع عدة مواطنين مبتسمين وسعداء وينقطع التيار الكهربي فجأة عن الشارع ويسود الظلام المطبق
ويتناهي إلى سمعه صوت شخص على أول الرصيف يتحدث في الهاتف في خفوت قائلاً :
“هه جاهز لبكرة .. تمام .. إسمع بكرة الدنيا حتبقى معمعة .. والناس مستنية اللي حينزل بكرة ولو أختفى حيقولوا راح في المظاهرات ، إحنا بقى يا معلم نخطف لنا كام حتة حريمي نوديهم لبتوع الدعارة ، على كام واد وبت صغيرين نوديهم للجماعة بتوع التسول والباشوات المحرومين من الخلفة ، واللي نلاقي جتته عفية وشادد حيله نبعته على الجماعة بتوع الأعضاء أهو نرزق كام كلوة على كام فص كبد يروقونا”
ثم ينصت لمحدثه قليلاً ويجيب :
“أيوه يابني أمال إيه .. طب ده فيه واحد بيه كبير قوي .. عايز رئة و كلى لأبنه اللي عمل حادثة وفي الإنعاش وقاللي حيديني الحلاوة مية ألف جنيه”
ثم ينصت مرة أخرى لينهي حديثه قائلاً:
“بص ياسيدي بكرة قبل الناس ماتفكر تنزل مظاهرات وبعد الصلاة على طول حقابل البيه ده أديله أول حد يقع في إيدينا ونخلع نشوف الباقي .. هو قال حييجي عند الميدان على أول شارع محمد محمود بعربية 4×4 يستلم ويسلمني ونطير .. خلاص خلصانة آزميلي أشوفك بكرة .. سلام”
لم يعد صديقنا يشعر بشيء ، أمعقول ما سمع ، كم كان المبلغ ؟!
مائة ألف جنيه أو يزيد ناتج بيع الأعضاء ، إذا توفر له هذا المبلغ ، ألن يستطيع سداد ديونه، والإنتهاء من الجمعيات المتأخرة مع أصدقائه ، بل إنه وبكل ثقة سيدخل إلى محل البقالة طالباً عشرة أكياس سكر ويدفع فوق ثمنهم نفحة ليحصل عليهم حالاً ، بل ولك أن تصدق سيستطيع جلب بعض كيلوات من اللحم أيضاّ ، ولكن كيف يتحصل عليهم وهو لم يعد قادراً على العودة إلي بيته ليس فقط لشعوره بالإمتهان ، ولكن كيف سيستطيع رفع عينه في عين زوجته عندما تسأله عن طلبات البيت ، أو مصروف أولاده وسؤالهم عن موعد دفع الشهر للدروس الخصوصية وتراءى أمامه طفله الرضيع وهو يبتسم له حين يحصل على حقه في الرضاعة من لبن مستورد نظيف.
كلا لن يعود ، ولن تقلق زوجته عليه فهي تعلم أنه يبيت أحياناً في العمل الإضافي لزيادة الدخل ، لكنه في هذه المرة لن يعود نهائياً ،لكنه سيوفر لهم دخلاً يكفيهم فترة لابأس بها ، وتخيل نفسه يتوجه للسيارة التى سمع عنها في ثقة طالباً من البيه إياه شراء أعضاؤه في سابقة قلما تحدث ..
كيف ستصل النقود لأسرته لا يهم ..
سيجد طريقة..
وقطع حبل أفكاره عودة التيار الكهربي و إشتعال التلفاز مرة أخرى ليحول البقال إلى محطة أخرى مغايرة بها أحد الشيوخ ، والذي يصرخ في مريديه أن يهبوا غداً لنجدة البلد مما حالت إليه والتوافد أطواف وأطواف لدحر الشر أو نيل الشهادة
فقام هو من مجلسه غير عابيء بكل هذا وقد إتخذ قراره بالسير فلم يعد معه نقود ليستقل أي مواصلة ويجب أن يصل مبكراً