كتبت:ملك احمد جلس الدكتور السوري هشام في مقهى بالقرب من ساحة بصمنة بمدينة إزمير (غربي تركيا) المطلة على شواطئ بحر إيجة بانتظار قدوم أحد المهربين ليتفق معه على تكلفة الرحلة وموعدها، بعدما قرر السفر برفقة زوجته وابنتيهما عبر زوارق مطاطية، أو ما بات يعرف بـ’قوارب الموت’.
فرغم تبدل الطقس وارتفاع أمواج البحر العاتية، يبدو أنهم حزموا أمرهم بالفعل للعبور إلى الضفة الثانية بحثا عن وطن جديد أو مؤقت ربمّا.
ومعظم الذين ينوون القيام بهذه الرحلات يدركون أنهم سيواجهون مخاطر كثيرة، وأن الموت يتهددهم، لكنهم لن يتوانوا عن ركوب هذه المغامرة، فعلى الضفة الثانية توجد حياة أفضل بانتظارهم، حسب تعبيرهم.
الدكتور هشام كان موظفاً حكومياً وشغل منصباً هاماً وظل على رأس عمله مدة 15 عاماً وارتقى لمراتب وظيفية عالية، لكنه بين عشية وضحاها اضطر لمغادرة منزله في منطقة ‘المهاجرين’ المحاذية لجبل قاسيون، والتي تنتشر فيها قواعد للصواريخ ومقرات عسكرية تابعة للنظام.
وعن أسباب المخاطرة بحياة أسرته وترك منصبه الحكومي، قال في حديثه مع الجزيرة نت ‘كنا شهود زور على الجرائم التي ترتكب بحق الشعب السوري، وعندما تعجز عن فعل شيء عليك بالمغادرة، وهذا أضعف الإيمان’.
وشبه الدكتور هشام الحياة في دمشق ‘بالمعسكر المغلق’، ولم يخف تأييده لحركة الاحتجاجات المناهضة لنظام الحكم ليضيف ‘لم أشارك في الثورة لأنني أعرف طبيعة النظام الوحشية، لكن كنت أحلم بالتغيير السلمي بشكل تدريجي’.
وكشف الموظف الحكومي في لقائه أن ‘غالبية زملائي غادروا البلاد، ومن تبقى منهم متورط مع الأجهزة الأمنية إما في اعتقال الآخرين أو التجسس على زملائه’، وحمل النظام والمعارضة مسؤولية انهيار مؤسسات الدولة ولو أن الطرف الأول كان سبباً رئيسياً في ذلك.
وبعد قراره السفر لإحدى الدول الأوروبية، أكد الدكتور هشام أنه لا يريد العودة للسياسة ‘فقط أريد العيش بأمان مع عائلتي، ولن أعود إلى سوريا في الوقت القريب’.
العائلة كانت تتأمل البحر بأمواجه المتلاطمة وكأنه يحذر الجميع من الاقتراب منه، خاصة مع قرب فصل الشتاء. وعلى مسافة ليست بعيدة تظهر الجزر اليونانية في الأفق، التي تعتبر بوابة لأوروبا وملاذا للهاربين من جحيم الحرب الدائرة في بلادهم.
في طريق السفر لكلّ مهاجر سوري قصّة اختزن في ذاكرته منها العديد من الصور لوطنه، ومنزله، وأحبائه. ولكنه أُرغم على الرحيل وحزم حقائب السفر، تاركاً خلفه الكثير من الذكريات والأوجاع. في مدينة إزمير يتعرف المرء بسهولة على أماكن تواجد المهرّبين والسماسرة، إما في ميدان ‘بصمنة كار’، أو في المقاهي القريبة منه، أو بجانب ساحة ‘ساعة كولوجي’.
وصل المهرب وألقى التحية على الدكتور هشام وعائلته وبدأ رأسا بالتفاوض على تكلفة الرحلة، وأخبره بأنه سيتقاضى عن كل شخص ألفا ومئتي دولار، وعليه وضع المال عند شركة وساطة قبل السفر. لم يحدد زمن الرحلة، ولكن وعده أن تكون قريبة، تبادلا أرقام الهواتف على عجالة ليبقوا على اتصال. بعدها بيومين، اتصل بهم ليحدد ساعة انطلاقهم.
وتابع الدكتور رواية قصته عبر الرسائل النصية من هاتفه، وأقر بأن أصعب مرحلة كانت ‘عندما تسلم مصير عائلتك لشخص لا تعرفه، ولكنك تجبر على الوثوق به’. وأضاف أنهم اتجهوا إلى نقطة قريبة من مدينة بودروم (غرباً)، وكان عدد المسافرين أربعين راكباً، حسب الاتفاق.
ومع خيوط الشمس الأولى انطلق بهم الزورق، وبعد ساعتين وصلوا إلى جزيرة ساموس اليونانية. وأرسل الدكتور رسالة ثانية يشرح فيها ‘مكثنا يوماً في أثينا وحصلنا على خارطة الخروج، صعدنا إلى حافلة نقل خاصة باللاجئين نحو الحدود المقدونية، ثم أكملنا طريقنا لحين وصولنا إلى النمسا’، وختم رسائله بالقول ‘من فيينا قاموا بنقلنا بقطارات مجانية إلى ألمانيا’.