كتبت.. نهى محمود
ما إن أُعلن نهاية اليوم الدراسى حتى تسابق الجميع للخروج.. أما انا فقد وقفت أتطلع بحزن إلى ذلك المكان الذى أجلس فيه دائما، إلى جدران فصلى، إلى تلك النافذة التى أنظر للسماء منها وأنطلق بخيالى بعيدا عندما كنت أشعر بالملل..
عدت إلى بيتى لأجد أمى تقف خارجا بجانب تلك السيارة التى تحمل كل ما نمتلكه.. نظرت لها ان أمنحينى بعض الوقت لأتأمل غرفتى للمرة الأخيرة.. أجابتنى هى الأخرى بنظرة حاسمة بأن ليس هناك متسع من الوقت لذلك..
مدينتى الحبيبة التى نشأت فيها ها انا أغادرها، تاركة معها كل ذكرياتى وأصدقائى وأبدأ حياة جديدة أشعر تجاهها بكثير من القلق..
فى الطريق سألت أمى: ما اسم المدينة التى سنذهب إليها؟
قالت: إنها “لاذريا”
تعجبت من هذا الاسم فانا أعلم أن كل المدن فى دولتنا لها اسم واحد “المُدمَرة” ولا يفرق بينهم سوى الرقم الذى يضاف بجانب اسم المدينة سألت أمى: ما قصة هذه المدينة ولماذا تختلف فى الاسم؟
قالت: عندما تعرضت دولتنا للغزو كانت كل مدينة يحاصرونها حتى تعلن الاستسلام فيعفون عن أهلها ولكنهم يدمرون كل مبانيها ويطمسون كل أثر لحضارتنا ويبنون كل شئ على نسقهم هم.. ولذلك كان يطلق عليها اسم المدمرة.. ويزيدون بجانب ذلك الرقم الدال على ترتيب سقوط كل مدينة فكانت مدينتنا “المٌدمَرة 3” هى ثالث المدن التى سقطت فى يد الاحتلال..
أما لاذريا فكانت العاصمة وهى الوحيدة التى لم تستسلم بل ظلت تقاوم حتى نفد منهم الطعام والذخيرة حينها استطاعوا اقتحامها وانتقموا من أهلها شر انتقام فقتلوا كل من كان فيها فلم يذروا فيها كائن حى.. حتى الحيوانات والطيور حتى المزارع أحرقوها فتركوها مدينة خاوية من الحياة فقط تلك المبانى ظلت شاهدة على من كان هنا يوما.. ومن حينها لم يسمحوا لأحد أن يسكنها ولم يفكر أحد فى ذلك.. ولكن عندما زاد عددنا وضاقت بنا المدن سمحوا فقط للنساء والأطفال وكبار السن بالذهاب إلى هناك .
سمعت هذه القصة فبدأت أشعر بالخوف فقد تخيلتها مدينة الأشباح.. وما ان اقتربنا منها حتى هبت رائحة زكية وسمعت أصوات العصافير ورأيت أسورها المهيبة رغم ما فيها من أضرار إلا أنها تقف بشموخ.. وما إن دخلنا حتى وجدنا الأشجار والأزهار ونباتات خضراء فى كل مكان فأدركنا أن الأرض رغم ما حدث لم يصيبها البوار وقد روتها الأمطار فدبت فيها الحياة..
بدأت أمى تحكى لى تاريخ كل مكان نمُرّ عليه كان الكثير من القلاع والحصون والأبراج..أبهرنى كل ما رأيته هنا رغم آثار الدمار التى طالته.. ذلك جعلنى أشعر أنى لم أكن أحيا فى وطنى من قبل فتلك المدينة هى ما تبقى منه …
كانت نافذة غرفتى الجديدة تطل على أحد المبانى القديمة وهو أعلى أبراج الحراسة هنا.. أحد آثار النضال .. كنت أذهب كثيرا واتجول فيه وأصعد لأعلاه لأشاهد المكان من هذه النقطة العالية وكنت أحلم باليوم الذى سنرفع فيه رايتنا عليه..
بدأ كل شخص هنا من صغير وكبير يُعيد بناء مدينتنا ..كانت أمى تخبرنى بأن جيلنا سيتعلم كل ما فاته معرفته عن حضارتنا.. وينشأ بعيدا عن الذل والهوان.. فيستنشق نسيم الحرية، فـ لاذريا التى كانت آخر المدن التى اُحتلت.. يوما ما ستكون هى أول المدن التى تتحرر وترفع راية الاستقلال.. حينها سنطلق عليها “مدينة النصر”..