بقلم / مجاهد منعثر منشد
ما السبب لكل هذا الاهتمام بمؤلفات الأستاذ غوستاف لوبون؟ سبق وأن كتبنا قراءة عن كتاب سايكولوجية الجماهير , فهو العالم بعلم النفس الاجتماعي (الأسس النفسية للشعوب ) .ومن علماء الآثار والأنثربولوجيا , لكن ليس هذه الأسباب الرئيسية ! إنّ السبب الرئيسي نزعته العلمية المحايدة وأطروحاته المبنية على المشاهدات الواقعية من خلال زيارته لبلدان عديدة حتى وصل إلى نتيجة وهي حدّ الإقرار في كتابه الشهير حضارة العرب بأن المسلمين هم الذين مَدَنوا أوروبا وليس العكس. ويُركز لوبون في دراساته على دور المبادئ والأخلاق في بناء الحضارة في حين لا يعُطي أهمية كبُرى لأشكال الحكومات والنُظم السياسية. وفي كتابه (حضارة العرب ) الذي تُرجم إلى العربية في 2012 بواسطة عادل زعيتر كتب المؤلف لمحة بانوراميه عن العرب (أين هم وماهي مساكنهم وأين تقع أراضيهم، وماهي أعراقهم وكيف هي أشكالهم وما الأعراف العامة التي اختصّوا بها) . وذكر خلافهم واقتتالهم والأديان التي كانوا يدينون بها قبل ظهور الإسلام كعبادة الشمس والنجوم والأصنام. وأشار إلى أن العرب كانوا أمة ذات خلفية ثقافية جيّدة حتى قبل مجيء الإسلام مسلِطاً الضوء على صفات العرب التي أهّلتهم لحمل الرسالة الإسلامية . و أشاد بأبرز الخصائص التي تميز بها العربي والمُسلِم من مروءة وشجاعة وغيرة وإكرام الضيف وإغاثة الملهوف، ويرى لوبون أن سر انتشار الإسلام يكمن في وضوحه كما يكمن سر قوته في توحيده وما أمر به من عدل ومساواة وتهذيب للنفس. ولذا صرح برأيه عن العرب قائلا : أن العرب وإن تواروا عن ساحة التاريخ فإن حضارتهم وديانتهم ولغتهم وفنونهم ستبقى حية . ولم يكتفِ لوبون عند هذا الحد في ذكر فضل العرب على الغرب بل ذهب في كتابه إلى إجراء مقارنة بين المزاج النفسي العربي والمزاج النفسي اليهودي مُنحازا للأول ومُنتقداً الثاني أشد الانتقاد. المؤلف ألف كتاب «حضارة العرب» عام 1884م .وسَلَك طريقًا لم يَسبِقه إليها أحد، فجاء جامعًا لعناصر هذه الحضارة وتأثيرها في العالم، شاملًا لعجائبها مفصِّلًا لعواملها، باحثًا في قيام دولة العرب، وفي أسباب عظمتهم وانحطاطهم، مبتعدًا عن أوهام الأوربيين التقليدية في العرب والإسلام. ورغم أن المؤلف لا يؤمن بالوحي وعدم قبوله برسالة النبي (ص) , إلا أنه طاف بنا في رحلة شيقة مع سيرة الرسول وأثنى عليه الصلاة والسلام معززا قوة العرب في قيادة العالم إلى ظهور النبي محمد صلوات الله وسلامه عليه واله وسلم , فمن نصوص الكتاب قال : إن محمدًا أصاب في بلاد العرب نتائجَ لم تصِب مثلَها جميع الديانات التي ظهرت قبل الإسلام، ومنها اليهودية والنصرانية، ولذلك كان فضل محمد على العرب عظيمًا … وإذا ما قيست قيمة الرجال بجليل أعمالهم كان محمد من أعظم من عَرَفهم التاريخ … والتعصبُ الدينيُّ هو الذي أعمى بصائر مؤرخي الغرب عن الاعتراف بفضل محمد. و صرَّح بأن وضوح الإسلام من أسباب انتشاره، وبأن وضوحه هذا مشتقٌّ من قوله بالتوحيد المحض الذي فيه سِرُّ قوته. هذا الكتاب بمثابة حجة مكتملة الأطراف قدمها المؤلف للمشككين والمقللين من حضارة العرب من أبناء جلدته، وهي صالحة لأن تكون كذلك في كل زمان. فرأى أن يبعث عصرَ العرب الذهبي من مرقده، وأن يُبْدِيَه للعالم في صورته الحقيقية ما استطاع . و عزا لوبون سقوطَ الدولة العربية وانحطاط العرب إلى صفات العرب الحربية المتأصلة التي كانت نافعةً في دَور فتوحهم، فالعربُ بعد أن تمَّت فتوحهم أخذ ميلهم إلى الانقسام يبدو، وصارت دولتهم تتجزأ، وقوَّضوا كيانهم بسلاحهم أكثر مما قُوِّض بسلاح الأمم الأخرى، وعزا لوبون انحطاط العرب، أيضًا، إلى ما حدث من قبض أناسٍ من ذوي العقول المتوسطة على زمام دولتهم الواسعة بعد أن كان يُدِير شؤونَها رجالٌ من العباقرة، وإلى ما ألفه العرب من الترف، وما أصابهم من فتورٍ في الحماسة لمثلهم الأعلى، وإلى تنافس مختلف الشعوب التي خَضَعت لسلطانهم، وإلى فساد الدم العربيِّ الذي نشأ عن توالد العرب وتلك الشعوب. و خَصَّص المؤلف فصلًا للحروب الصليبية أشار فيه، غيرَ مرة، إلى الفرق بين الفتح العربي والغارات الصليبية من حيث التسامح وحسن معاملة المغلوبين والسياسة الرشيدة، فقال: كانت أوربة، ولا سيما فرنسةُ، في القرن الحادي عشر الذي جُرِّدت فيه الحملة الصليبيةُ الأولى في أشد أدوار التاريخ ظلامًا … ولم يكن الصراع العظيم الذي كان يَتَمَخَّض عنه العالم غيرَ نزاع عظيم بين أقوام من الهمج، وحضارةٍ تُعدُّ من أرقى الحضارات التي عرفها التاريخ. وذكر غوستاف ما شد انتباهه إبداع , فن ,عمارة , فقال : يكفي الإنسانَ أن ينظر إلى إحدى البنايات التي أقيمت في دور راقٍ من أدوار الحضارة العربية، مسجدًا كان ذلك البناء أو قصرًا، أو أن ينظر إلى ما صُنِع فيه من دَوَاة أو خِنجر أو جلد قرآنٍ؛ ليرى لهذه الآثار طوابعَ خاصةً لا يتطرَّق الوهم إليه في أصلها، والباحث في مصنوعات العرب، كبيرةً كانت أو صغيرة، لا يرى فيها أية صلة ظاهرة بمصنوعات أية أمة أخرى، فالإبداعُ في مصنوعات العرب تامٌّ واضح . إنّ لوبون رأى فنون العرب آية في الإعجاز، وأنها تُورِث العجب العجاب. وانتهى إلى : إنه كان للحضارة الإسلامية تأثيرٌ عظيم في العالم، وإن هذا التأثير خاص بالعرب وحدَهم فلا تشاركهم فيه الشعوب الكثيرة التي اعتنقت دينهم، والعربُ هم الذين هَذَّبوا بتأثيرهم الخُلُقي البرابرة الذين قَضَوا على دولة الرومان، والعربُ هم الذين فتحوا لأوربة ما كانت تجهله من عالم المعارف العلمية والأدبية والفلسفية، فكانوا مُمَدِّنين لنا وأئمة لنا ستة قرون … وظلَّت تَرجمات كتب العرب، ولا سيما الكتبُ العلمية، مصدرًا وحيدًا، تقريبًا، للتدريس في جامعات أوربة خمسة قرون أو ستة قرون … وإذا كانت هناك أمةٌ تُقِرُّ بأننا مَدِينون لها بمعرفتنا لعالم الزمن القديم فالعرب هم تلك الأمة … فعلى العالم أن يعترف للعرب بجميل صُنعهم في إنقاذ تلك الكنوز الثمينة اعترافًا أبديًّا، قال مسيو ليبرى: لو لم يظهر العرب على مسرح التاريخ؛ لتأخرت نهضة أوربة الحديثة في الآداب عِدة قرون. اختتم الفيلسوف والطبيب والمؤرخ الفرنسي غوستاف كتابه بهذه السطور : إن الأمم التي فاقت العرب تمدناً قليلة إلى الغاية، وإننا لا نذكر أمةً كالعرب حققت من المبتكرات العظيمة في وقت قصير مثل ما حققوا، وإن العرب أقاموا ديناً من أقوى الأديان التي سادت العالم، أقاموا ديناً لا يزال تأثيره أشد حيوية مما لأي دين آخر، وإنهم أنشأوا من الناحية السياسية دولةً من أعظم الدول التي عرفها التاريخ، وإنهم مدّنوا أوربا ثقافةً وأخلاقاً، فالعروق التي سمت سموّ العرب وهبطت هبوطهم نادرة ولم يظهر، كالعرب، عرق يصلح أن يكون مثالاً بارزاً لتأثير العوامل التي تهيمن على قيام الدول وعظمتها وانحطاطها.