في يوم الخميس، الموافق 14 يناير 2016، وفي نفس هذا المكان، نُشر مقالي المعنون “أخطر وثيقة أمريكية عن مصر 2020″، والتي ظهر فيها، لأول مرة، مصطلح “شرق المتوسط”، كمصطلح جيوسياسي؛ عندما أكدت الوثيقة الأمريكية أن “منطقة شرق المتوسط”، التي تضم ليبيا، ومصر، وفلسطين، وإسرائيل، ولبنان، وسوريا، وقبرص، واليونان، تطفو فوق بحيرة من الغاز الطبيعي، والبترول.
وحيث كانت الوثيقة معنية بمصر، تحديداً، فقد أشارت إلى أن مصر ستكتفي ذاتياً من الغاز الطبيعي عام 2018، وسوف تبدأ في تصدير الفائض بحلول 2020، وهو ما حدث بالفعل، مؤكدة على امتلاك مصر لأكبر احتياطي للغاز الطبيعي، في منطقة شرق المتوسط، بتقديرات تصل إلى 240 ترليون متر مكعب.
وأشادت الوثيقة بقرار الرئيس عبد الفتاح السيسي، الذي اتخذه فور توليه الحكم في 2014، بترسيم الحدود البحرية بين مصر وإسرائيل وقبرص واليونان، والمودع صورة منه بالأمم المتحدة، إذ شجع الشركات العالمية، للتنافس على الحفر والتنقيب، الذي أدى لاكتشاف “حقل ظُهر”، كأكبر حقول الغاز الطبيعي، في منطقة شرق المتوسط، وتغطي احتياطاته استهلاك الغاز الطبيعي حتى عام 2045.
كما تطرقت الوثيقة الأمريكية لحكمة الرئيس عبد الفتاح السيسي، وقراراته الاستباقية، بدعم قواته المسلحة المصرية، وخاصة القوات البحرية، بهدف تأمين هذه الاستثمارات في منطقة شرق المتوسط، وكذلك تعزيز علاقات بلاده الخارجية مع كل من قبرص واليونان، والتي وصلت لتنفيذ تدريبات عسكرية مشتركة، بهدف التأكيد على القدرة على تأمين الاستثمارات المصرية للغاز الطبيعي في شرق المتوسط. كما استفادت الإدارة المصرية بقوتها السياسية والدبلوماسية في تأسيس “منتدى غاز شرق المتوسط”، ومقره القاهرة، بمشاركة إيطاليا، واليونان، وقبرص، والأردن، وإسرائيل، وفلسطين، وقد طلبت كل من فرنسا والولايات المتحدة الانضمام لهذا المنتدى، كمراقبين، وهو المنتدى المماثل لمنظمة أوبك للبترول.
وجدت تركيا نفسها بعيدة عن غاز، وبترول، شرق المتوسط، بموجب جميع الدراسات الجيولوجية الدولية، التي أكدت أن “منطقة شرق المتوسط” لا تشملها، فبدأ أردوغان التحرش بقبرص، بإرسال سفنه للتنقيب عن الغاز أمام سواحل قبرص التركية، ومصدراً قراره بمنع التنقيب أمام سواحل قبرص، لنزاعه الحدودي معها، مما دعا إيطاليا لإرسال مدمرات بحرية لحراسة وتأمين استثمارات شركة ايني الإيطالية، المسئولة عن التنقيب أمام السواحل القبرصية،
كما فرض الاتحاد الأوروبي، الذي تعد قبرص أحد دوله الأعضاء، عدة عقوبات على تركيا، مما اضطر أردوغان لوقف ممارساته ضد قبرص، لتجنب زيادة العقوبات الأوروبية، في ظل ما يعانيه اقتصاد بلاده من تدهور شديد.
لم يهدأ أردوغان، بل بحث عن طرق أكثر التواء، مستغلاً الخلاف السياسي بين حكومة الوفاق بطرابلس، والجيش الوطني الليبي، الواقف على مشارف طرابلس، فهرول لتوقيع اتفاقيتين مع فايز السراج، رئيس الحكومة في طرابلس، إحداهما لترسيم الحدود البحرية بين تركيا وليبيا، والأخرى أمنية تتعهد فيها تركيا بالدفاع عن حكومة السراج في طرابلس.
وفي نفس الأسبوع طلب أردوغان رسمياً من حكومة فايز السراج السماح للسفن التركية بالتنقيب أمام السواحل الليبية.
والواقع أن هذه الاتفاقيات باطلة بموجب القوانين الدولية، فبداية فإن فايز السراج، رئيس حكومة معين، من خلال اتفاق الصخيرات، ولم يمنح صلاحيات لتوقيع على اتفاقات دولية، فضلاً عن إعلان البرلمان الليبي، المنتخب، لتلك الاتفاقيات، بما يفقدها أي اعتراف دولي بها.
يضاف إلى ذلك أن اتفاقية ترسيم الحدود البحرية مخالفة للقانون الدولي، المعمول به في هذا الشأن، حيث لم تراع تركيا حدود المياه الاقتصادية لدولة قبرص، وخاصة أمام جزيرة كريت اليونانية، التي انتهكت حدود مياهها الإقليمية والاقتصادية، وبالنسبة للاتفاقية الأمنية، فتتعارض مع حظر التعاون العسكري المفروض على ليبيا، وهكذا التهب الموقف في منطقة شرق المتوسط.
استغلت تركيا انشغال القوى العظمى بأزمة لفيروس كورونا، وأرسل أردوغان دعماً عسكرياً إلى ليبيا، متمثلاً في ضباط وقادة أتراك، لإنشاء مركز عمليات، ومركز استخبارات، في طرابلس، كما قام بنقل عشرة آلاف من المرتزقة من شمال سوريا إلى ليبيا، تدفع حكومة السراج لكل منهم 750 دولار شهرياً، كما قام أردوغان بالدفع بعدد 40 عربة مدرعة، و40 دبابة M60، أمريكية الصنع، إلى ليبيا، في حراسة من القوات البحرية التركية، فضلاً عن عدد من الطائرات المسيرة بدون طيار، متحدياً قرار مجلس الأمن بحظر إمداد الأطراف المتنازعة في ليبيا، بأية أسلحة ومعدات، والمتفق عليه في مؤتمر برلين.
ومع وصول هذه الأسلحة والمعدات تغير ميزان القوى العسكرية، في ليبيا، مما دفع ميليشيات السراج إلى القيام بعمليات عسكرية، ضد قوات الجيش الوطني الليبي بقيادة الفريق حفتر.
وكان الهدف التركي، الواضح، هو استغلال ثروات ليبيا من الغاز الطبيعي والبترول، لإنعاش الاقتصاد التركي الذي يعاني من تدهور كبير.
ومن هذا المنطلق جاءت المبادرة المصرية بإعلان القاهرة، الذي يتضمن مبادرة ليبية-ليبية، كأساس لحل الأزمة، في ليبيا، بإعلان وقف إطلاق النار، وإلزام الجهات الأجنبية بإخراج عناصر المرتزقة، وإرساء دعائم الأمن والاستقرار في أنحاء ليبيا، من خلال تسوية سلمية تضمن التوزيع العادل للثروات الليبية، وصياغة دستور جديد، وتحديد مدة زمنية لفترة انتقالية لإجراء انتخابات جديدة تحت إشراف الأمم المتحدة.
وقد لاقى إعلان القاهرة ترحيباً واسعاً في المجتمع الدولي، وتوافقت عليه جميع القوى الدولية، كحل سلمي لإنهاء الأزمة، دون تدخلات أجنبية، لضمان استقرار ليبيا …
ولكن يبقى السؤال، هل سيقبل أردوغان الانسحاب من ليبيا، وهو من يعنيه نهب ثرواتها، لإنعاش اقتصاده، قبيل إجراء الانتخابات الرئاسية التركية، القادمة؟ وما هي استعدادات المجتمع الدولي للرد عليه حال استمراره في خرق ومخالفة كافة القوانين الدولية