لم يكن أحد يتخيل أن هبة النيل , التي تحدث الشرق والغرب عن عذوبة مائها , وقامت حضارتها على جانبي نهرها الخالد , لم يكن يتخيل أن يعاني أهالي مدينة فرشوط التي تقع في أقصى صعيد مصر بمحافظة قنا , غرب نهر النيل بثلاثة كيلومترات فقط من عدم وصول مائه إليهم!
تلك المدينة التي عانى -ومازال – أهلها من تدني الخدمات والمرافق دوناً عن بقية جيرانها , ولا يعلم أحد ما السبب في ذلك ! , فأهل المدينة لا ينقصهم السلطة أو المال أو من يتحدث باسمهم , فهي منشأ أعضاء مجلس الشعب والأمة , وأصحاب القرار والسلطة في الدولة المصرية منذ القدم , والتجار وذوي الجاه , لكن ينقصهم التكاتف والوحدة وتوجيه الإمكانات لخدمة تلك المدينة التي ظلم ومازال أهلها يظلمون ويُتناسون!
قطعاً , نحن لسنا بصدد الحديث عن إمكانيات (إحدى أكبر المدن التجارية في الصعيد) وامكانات أهلها وأبنائها , ولكن كان لابد من هذه المقدمة البسيطة قبل طرح تلك المشكلة العصيبة , التي تضرب جذورها لما يزيد عن خمسة وعشرين عاماً , والتي أودت -ومازالت – بحياة المئات من أبناء المدينة والقرى المظلومة معها!
فمنذ انشاء مرشح مياه فرشوط , والذي تم تخصيص قطعة أرض متميزة المكان في وسط المدينة له , وبتكلفة وصلت لثمانية ملايين جنيه مصري (وهو مبلغ كبير جدا في ذلك الوقت ) لانشاء محطة تنقية مياة ارتوازية جوفية (من باطن الأرض) -على الرغم من قرب شريان الحياة في مصر والذي لا يبعد سوى ثلاثة كيلومترات- والأهالي يشتكون من تلوث المياة , التي لا تصلح للاستخدام الآدمي , فازدادت معدلات الاصابة بمرض الفشل الكلوي , وأصبحت مستشفى فرشوط المركزي غير قادرة على استيعاب عدد المصابين والمرضى -وما خفي كان أعظم- وتعالت الصيحات المطالبة بتوفير المياة النقية لأكثر من مائتي ألف مواطن فرشوطي عانوا – ومازالوا- من سوء المياة والاصابة بالامراض والطفيليات ومنذ ما يزيد عشر سنوات والوعود تتوالى بتوفير مياه نقية لفرشوط وقراها!
وتم بالفعل عمل وصلة من مدينة نجع حمادي للمدينة فقط , فأصبحت المياة تأتي في المواسم وفقط , وتأذى أهالي نجع حمادي من قلة حصتهم , وظلت القرى على حاليها تشكو لربها وتبذل كل جهودها لتوفير (جركن) مياة نظيف يتم توفيره بالعناء ونقله بأسوأ الطرق وبتكلفة تعتبر كبيرة للمواطن المسكين!
وجاءت بعدها البشرى بافتتاح محطة (النجمة والحمران ) والتي أذيع – كذباً – أنها ستغذي مدينة فرشوط وقراها بحصة كافية من المياه النقية التي لا تنقطع , ومضت كغيرها من البشريات الخادعة.
إلى أن أذيع عن أن منحة قادمة (تقدر ب 30 مليون جنيه مصري) لإنقاذ المدينة مما هي فيه وعادت الآمال من جديد لبناء محطة تنقية وتحلية مياة للمدينة المحرومة وقراها , فاصطدم الأمل بالروتين والمصلحة الشخصية , حيث اعترض مجلس المدينة على بناء المحطة الجديدة مكان المحطة الارتوازية القديمة – بعد أن تم استغلالها لبناء مقر جديد لمجلس المدينة واستثمارها بعمل قاعة مناسبات (نادي الأسرة)- وظهر البديل في 3 أفدنة في كوم البجاة يحاول المجلس توجيه النظر إليها لاستغلالها بدلا من أرض المحطة القديمة .
وبين هذا وذاك سمعنا بلجنة أتت لوضع التصور للمحطة الجديدة -الأمل والمنقذ المخلص- فاصطدمت هي الأخرى بالروتين والتشتت بين الموقعين السابق ذكرهم , لتهدد بصرف المنحة إلى مدن أخرى إذا لم يتم حل المشكلة !
وما زال القرار حائر , ينتظر من لا ترتعش يداه عند التوقيع عليه , وينقذ أكثر من مائتي ألف مواطن , كلهم معرضون لأخطار أمراض الكلي والمعدة والفشل الوبائي , وتستمر القصة بلا بطل سوى المواطن المسكين الذي يتجرع كأس الذل قبل كوب الماء النقي.