كتب كريم دسوقي تثيرُ قصورُ السلاطين العثمانيين في مدينة إسطنبول التركية كثيرا من الدهشة في نفوس زوارها، ليْس لما تحتويه من كنوز نادرة فحسب، بلْ، أيضا، لقُدْرة الأتراك على صيانتها، والحفاظ عليها كما تركها السلاطين، بُتحفها، ومحتوياتها النفيسة، رغم مرور عقود طويلة من الزمن على تشييدها، كما لو أنها بُنيتْ أمس فقط. داخل أجنحة قصر “دولما باشي” (Dolmabahçe)، الذي بُني أواسط القرن التاسع عشر، والمُطلّ على مضيق البوسفور، تظهرُ عَظمة الإمبراطورية العثمانية في أقصى تجلّياتها. داخل هذا القصر الضخم، والذي كانَ بَلاطَ السلاطين العثمانيين، توجدُ زخارفُ ونقوش تضمّ 40 طنّا من الذهب الخالص. منذ الصباح الباكر يفِدُ السياح من مختلف الجنسيات بكثرة على قصر “دولما باش”، يصطفّون أمام بابه، انتظاراً لدوْرهم؛ وقبْل الولوج يُفرض على الجميع ارتداءَ جوارب بلاستيكية على الأحذية، حفاظا على فُرش القصر؛ أمّا آلات التصوير فممنوع استخدامُها، لكنّ بعض السياح يلتقطون الصور خلسةً من أعين الحراس. هنا، ما زالت الأواني التي كان يستعملهما السلاطين العثمانيون الذين سكنوا القصرَ مُحتفظا بها، ثمة أيضا بنادقُ قديمة، ومكتبة كبيرةٌ تعجّ بآلاف المجلّات والكتب والقصاصات… ثمّة أيضا “مسيد”، حيثُ كانَ أبناء السلاطين يتعلمون القرآن، على جُدرانه نقشت الآية القرآنية (إنا فتحنا لك فتحا مبينا). ويوجدُ داخل هذا القصر جناح خاصّ بحريم السلاطين العثمانيين، به حمّام وغرفة للجلوس، وشبّاك يُطلّ من خلاله الحريم على فناء القصر، حينَ يحلّ أحدُ الضيوف الكبار على السلطان. يقول دليلنا إنَّ مسلسل “حريم السلطان”، الذي بُثّ على شاشات القنوات الفضائية العربية، ولقي إعجابا لدى العرب، أثار استياء الأتراك، لأنه لخّصَ حياة السلاطين العثمانيين في علاقتهم بالحريم. تخضعُ قصور السلاطين العثمانيين بمدينة إسطنبول التركية لإجراءات أمنية مشدّدة. في البوابات يوجدُ حرّاسُ أمنٍ مدجّجون بالأسلحة، ويجري تمرير حقائب الزوار عبر جهاز “سكانير”؛ لكنّ الإجراءات تمرّ بسلاسة. غير بعيد عن قصر “دولما باشي”، يوجد متحف “توب كابي”، الذي يضم جُزءا كبيرا من ذاكرة المسلمين، يتمّ الاحتفاظ به في جناح خاصّ، يُتلى فيه القرآن على مدار الساعة. “سوف تندهشون كثيرا وستُفاجؤون بالأشياء التي ستروْنها هُنا”، يقول دليلنا ونحن في مدخل المتحف. وشيئا فشيئا تظهرُ المفاجآت.. داخل صِوانٍ زُجاجيّ على يسار المدخل يوجدُ سيف النبيّ داود، ويعودُ تاريخه، حسب المعلومات المدوّنة في ورقة بالعربية، إلى القرن العاشر قبل الميلاد، تقريبا، وإلى جانبه عَصا النبيّ موسى، ويعود تاريخها إلى القرن الثالث عشر قبل الميلاد. داخل هذا المتحف أيضا توجد عمامة النبيّ يوسف، وبقايا عظام جمجمة النبي يحيى، ومفتاح الكعبة، وميزابُها الخشبي، وقدْ تمّ حفُّه بالذهب الخالص، وسيف الزبير بن العوام، وسيف الصحابي خالد بن الوليد، الذي يعود إلى القرن السابع، أما مقبض السيف فصَنعه العثمانيون خلال القرن السادس عشر. في قاعةٍ أخرى داخل الجناح، توجدُ لحية الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، محفوظة داخلَ وعاء زجاجي صغير، بالقرب منها توجدُ سِنٌّ للرسول، ورسالة كان قدْ بعثها إلى رئيس الأقباط المقوقس خلال القرن السابع. ثمّة أيضا قوْسٌ كان يستعمله الرسول في الرماية، محفوظ داخل محفظة صُنعتْ في عهد السلطان العثماني عبد المجيد، الذي حَكمَ ما بين 1839 و1861. في الجناح أيضا يوجد سيفُ الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، الذي يعود إلى القرن السابع، وسيف الخليفة عمر بن الخطاب، وسيف أبي بكر الصديق، وسيف الخليفة علي ابن أبي طالب، وسيف الخليفة عثمان بن عفان، إضافة إلى كأس كان يشربُ منه الرسول، محفوظ داخل محفظة فضيّة، وستارة صندوق السيدة فاطمة الزهراء، بنت الرسول… وتُحفٍ أخرى نادرة كثيرة. يبْذلُ الأتراك جهودا كبيرا لصيانة مآثرهم التاريخية، سواء داخلها أو في محيطها الخارجي. مكانسُ عمّال النظافة لا تهدأ، ومن النادر أن تجدَ عقبَ سيجارة في المناطق السياحية بإسطنبول. عندما يغادرُ السياح في المساء، تشرع شاحنات صغيرة في تنظيف الشوارع والساحات. ويهتمّ الأتراك كثيرا بإرضاء السياح الوافدين على بلدهم، إذ لا ينفكّون عن السؤال عمّا إنْ كانت الزيارة جيدة. “لقدْ حقّقنا نتائج جيدة وتقدّما على المستوى السياحي، لكننا نطمحُ إلى تحقيق المزيد، من خلال تنويع العرض السياحي، فهناك أماكنُ يستطيع جميع السياح زيارتها، وهناك مناطقُ أخرى لجذب السياح ذوي المستوى الاجتماعي الراقي”، يقول مرشد سياحي لهسبريس. في تركيا يُفرض على المرشدين السياحيين أنْ يحصلوا على دبلوم في هذا المجال، قبل الحصول على رخصة لمزاولة مهنة دليل سياحي، وهذا ما يمكّنهم من الإحاطة بتاريخ بلدهم، وتقديم معلومات كثيرة للسياح عن المآثر التاريخية. في إسطنبول بالكاد يكفي يومٌ كامل لزيارة متحفٍ أو متحفيْن، نظرا لغناها التاريخي. هنا أيضا يوجد مسجد السلطان أحمد، أو “الجامع الأزرق”، وعنه يقول مرافقنا: “من زار إسطنبول ولم يزُر الجامع الأزرق، كمنْ زار مدينة الدار البيضاء ولم يزُرْ مسجد الحسن الثاني”.