لفته عبد النبي الخزرجي
لو كانت الرواية تحمل هذا الاسم ، هذا ما كان يساورني وأنا اقرأ رواية منور ناهض الخياط للمرة الثالثة ” ليلة اغتيال عود القصب ” ، منور ناهض الخياط ، يجهد ان يضع له بصمة واضحة في مسرح الحياة الثقافية ، من خلال نافذة الرواية ، لان الرواية من السهل الممتنع في الأدب ، وهي من ارقي الفنون الأدبية وأكثرها إثارة ومتعة .
هذا الشاب المترع بتراث بابل وسومر وآشور ، يستل من فجوة الماضي أحداثا ليصبها في بوتقة تحاكي الخطوات الأولى ” لمن يدرك جيدا بأنه سيقع في التيه حال وصوله إلى العاصمة 0″ 1
منور هذا .. سليل الشاعر المخضرم ناهض الخياط ، هذا السومري القادم من مدينة الشمس والشعر والنضال 0 منور هذا ، لم يمسك العصا من منتصفها ، بل انه أجال النظر طويلا ، قبل أن يقدم على خطواته الأولى ، لكن ” عيون الذئب ” عفوا ” عودة الذئب ” كانت نهاية كل شيء ، فقد امسك عصاه من العقد الأمامية ، حيث ” أن الذئاب قد أكلت جراءها ” لكن العشق لدى ” وادي الحسن ” كان ” صوب امرأة شاهدها في الحلم ” 0 أما ” قرية الهلالية ” فما فتئت تلتزم الصمت حيال ” حامد الغافل ” الذي كان مزهوا ، حين وصف اليساريين بإتباع الشيطان 0 ان هذا كان سببا ” دفع أهل القرية للهجرة ” 0 وعندما يشعر الابن أن عليه أن يرضخ ” صاغرا ، كما جرت العادة لأوامر الأب ” فإن الخطوة الأولى كانت ” الفشل والخيبة وسوء الطالع ” ، ولهذا وصفته المرأة التي زفت له ، دون أن تكون هناك رغبة تربطه معها ، أنها تراه ” كالطفل الذي أضاع والدته في الزحام ، وحيدا ضائعا مستجديا العطف والحنان من الآخرين 0 ”
لكن نقطة الشروع ” كانت .. هي بالخروج من هذا العرف ، والبدء بمرحلة جديدة من المغامرة والتمرد على القواعد والأعراف ، لكن الأبناء الخمسة ، باتوا يدركون أن مغامرة أبيهم لم تكن دافعا لهم لمواصلة ركوب اللذة و المغامرة “0
وعندما استفاق الحاكم ” كان يصغي باهتمام كبير للتقرير الذي رفع إليه من قبل رئيس الشرطة ” ، هذه هي سجية الحكام ، لا يأبهون بحياة الناس ، لكنهم لا يألون جهدا ” يتابعون الجثة وهي طافية في النهر ” ، لكن الحاكم رأى أن اختفاء الجثة في أعواد القصب ، لابد ان يتبعه ” حرق غابة القصب ، ودفن البحيرة تحت تلال من الأتربة والصخور ” 0 وبينما يصدر الحاكم مرسوما ” يعفو بموجبه الضباط من التهمة الموجهة إليهم ، وقد تم اعتبارهم شهداء الواجب المقدس ” ، فإن الجثة تعود للظهور مرة أخرى ، ويعود شرطة الحاكم بمتابعتها ، لكن ” صقر شامي ” ما زال يحتفظ بناي القصب ، الذي أدرك الحاكم خطورته !!
إذن الخطورة تكمن في من يصنع من عود القصب نايا … لان الناي يعني هناك موسيقى ، هناك فن ، هناك إبداع ، وهذا ما يؤرق الحاكم ، لان الإبداع يعني الوعي ، والوعي والمعرفة والفن ، مفردات لا تتفق مع نفس الحاكم العطشى للدماء ، لكن صقر شامي لم يتخل عن ناي القصب 0
وبعد ان جف ضرع الأرض .. ” ولم تعد تعطي ثمرا ” عندها أصبح ” الرحيل عن الهلالية هو ” الاختيار الوحيد ، إلا ان السؤال الأكثر إلحاحا هو ” إلى أين ؟” 0
الشيخ ” حامد الغافل ” ما فتيء يوجه النصائح في خطبه الرنانة في مسجد القرية ” أيها المؤمنون اسمعوا وعوا من أوتي كتابه بيمينه فهو في جنات النعيم ، ومن أوتي كتابه بشماله فهو من الخاسرين ” ، إلا أن السؤال الذي لابد أن يعرفه الناس ، ما أسباب هذه الخسارة ؟؟ والجواب لدى الشيخ ” حامد الغافل ” ، لان الشمال .. يعني اليسار ” فالعنوا الشيطان وأتباعه ” 0 لكن هذا اللاعن الشيطان ليلا ونهارا ، يبذل محاولاته بإقناع الناس أن الله خلق الناس هكذا ، الفقير يظل فقيرا ، والغني يزداد غناه !! وهو لا يجد مأخذا على هؤلاء اليساريين سوى أنهم يريدون أن يبنوا جنة في الأرض تساوي بين البشر ، أن هذا أكثر ما يغيض ” حامد الغافل ” فهو يرى ان العدل ان لا يتساوى البشر في حياتهم المعيشية ، لان هذا حسب رأيه ما يريده الرب ، هكذا كان يؤكد في خطبه 0 وعندما أتيحت له فرصة اللقاء مع شاب صادفه وهو في سفره إلى العاصمة ، ودار نقاش بين الطرفين ، كان الشاب فيه أكثر صراحة ووضوحا ، لا.. لا يمكن ” ان الله لا يمكن ان يكون هكذا؟ ” قال الشاب بنبرة حادة مشوبة بالكثير من الحيرة والصمت أيضا 0
رواية منور ناهض الخياط ” ليلة اغتيال عود القصب ” تضم احد عشر عنوانا ” عودة الذئب ، قرية الهلالية ، الأبناء الخمسة ، الخطوات الأولى ، هموم الشيخ ، راعي الكلاب ، وادي الحسن والعشق ، نقطة الشروع ، الشيخ المبروك ، حكاية الناي ، واستفاقة الحاكم ” 0
الرواية من إصدار المركز الثقافي للطباعة والنشر في بابل ، لوحة الغلاف جاءت بريشة الفنان زيدان الكرعاوي 0
ورغم أن الأبناء الخمسة ” الذين لم تكن لهم رغبة بالمغامرة او الحصول على اللذة ، كأنهم ليسوا من صلبه ” ، إلا أنهم في آخر المطاف ، رشحوا أخاهم الكبير ” راجح ألعزام ” ليكون سفيرهم إلى العاصمة 0 لم يكن الأمر بهذه البساطة والسهولة ، لأن هذا السفر لم يأت من فراغ وإنما جاء كما هو مسار الرواية ، ليثبتوا ” أنهم من صلب أبيهم ” ، لأن الطعن بصحة النسب في قرية مثل الهلالية أمر في غاية الصعوبة ، ولذلك فان هذا الأمر كان هاجسا واضحا جدا ومبررا للأبناء الخمسة في أن يعطوا الآخرين ” دليلا بأنهم بحق أبناء أبيهم ، ذلك الشخص الذي اقترن اسمه دائما بالمغامرة والمجازفة ، عندها ستكف الألسنة عن إسماعهم كلمات جارحة ” 0
ومن خلال توظيف الموروث الشعبي ، فان الرواية تبدو أكثر التصاقا بحركة الواقع وتداعياته ” انه يمتلك خرزة ” ، والخرزة كما يبدو ” نوع من الأحجار يعتقد بامتلاكه قوة سحرية معينة ” ، وعلى هذا الأساس فقد كان ” وادي الحسن ” يمثل بالنسبة للقرية وسكانها ، قارب نجاة لأنه كان ” معروفا للجميع بأنه رجل مبارك وصاحب كرامات ، لذا كان يمثل طوق النجاة لكل امرئ يعاني من مشكلة مستعصية ” 0 ان هذا التوظيف الموفق .. أضفى على الرواية الكثير من الواقعية ومنحها بعدا فنيا وحيوية ظاهرة ، وأزاح عنها شرنقة الإسفاف والدوران في زوايا اللاشيء0
ان الخطاب الروائي الذي اعتمده الكاتب ، والأنساق السردية المتجانسة ، ووحدة الموضوع رغم التنوع في مواقع الشخصيات من النواحي الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ، كانت مثالا لصيرورة النص جزء من حركة الواقع المتغير دائما ، كما ان ابتعاد المؤلف ، قدر المستطاع ، عن ان يكون طرفا في موضوع العلاقات بين الشخوص ، قد منح هذه الحبكة القصصية شفافية وروحا رياضية ، ما أعطى الرواية زخما واقعيا وأبعدها عن الوقوع في شرك الانحياز لطرف 0
اللغة التي اعتمدها الكاتب ، كانت تجليات و نبضا لحركة الشخوص وانتماءاتهم المختلفة والمتباينة ، ومستوياتهم المعرفية ، ورغم ان الكاتب ، أي كاتب ، إنما يمثل في الحقيقة ، وجهة نظره ، لان الكتابة من اجل الكتابة لم يعد لها موقع في الأدب ، وعلى هذا الأساس فان الكاتب يبذل جهدا لينقل لنا نحن القراء ، ومن خلال شخصياته ، موقفه الإنساني والمعرفي وحتى موقفه الطبقي ، لكي نستطيع بناء تصوراتنا عن الكاتب .
1 ) ما بين الأقواس مقتبسات من الرواية