كان في قريتي بصعيد مصر عمدة يمتلك شخصية قوية مع مقومات وقدرات اخري من الثقافة والذكاء والحكمة، كل ذلك بجانب نفوذ عائلته واصالتها التاريخية، جعله يشكل نموذج فريد لحكم وإدارة شئون القرية متعددة الثقافات ومتنوعة العائلات.
فأتذكر في طفولتي كان عندما يذهب له شخص فقير أو ضعيف يشتكي له من شخص أخر أكثر قوة ونفوذاً، يطلب العمدة من خفير لديه أن يذهب إلى هذا الشخص ويأتي به، وفي خلال وقت وجيز يكون الخفير في منزل ذلك الرجل المشكو عليه ويطلب منه الحضور حالاً لدوار العمدة أو السلاحليك، في التو واللحظة يحضر هذا الشخص ويتبعه كل أفراد عائلته، وإن لم يكن موجود في المنزل، لا يستطيع الخفير الرجوع إلى العمدة بدونه، بل يبحث عنه في كل مكان حتي يحضر به،
وهناك في حضرة وجود العمدة حيث المهابة والوقار ومن ثم الصمت يخيم علي المكان، يسأل العمدة الشخص المشكو عليه عن شكوي الشاكي الرجل الضعيف ، وفي كل وقار وأدب وخوف يجيب المشكو عليه وإن ثبت إدانته بعد تفحص الأمر جيداً ،
يقوم العمدة بتعنيفه بشدة وسط الحضور لكسر عنجهية قوته أمام أفراد عائلته وأمام الشخص الشاكي الضعيف، ويحكم بتعويض المشكو عليه مالياً أو ادبياً طبقاً لحجم المشكلة.
وبجانبه كانت هناك عصا خرزانه فأن تطاول أو تكلم بشكل غير لائق أحد من اولاد المشكو عليه أو شباب عائلته يأمر العمدة الخفير باحضار الخرزانه ويقوم بعقاب مؤلم لهذا الشاب الذي تطاول علي هيبة ووقار العمدة والحضور في تلك الجلسة، وبعد إنتهاء المشكلة وتعويض الشخص المظلوم يأمر العمدة الشخص المخطئ بالذهاب الي منزل الشخص صاحب الحق لتقديم الإعتذار له وطلب السماح والعفو منه، هنا حكمة وقوة قانون عمدة القرية ،
وبعد سنوات طويلة رحل العمدة عن عالمنا، ولكن بقي الكثير من ثقافة قانونه الذي فرضه بقوة شخصيته داخل القرية.
وكل ما أود الاشارة إليه من شخصية العمدة أن دولة القانون والمساواة ليس بنود دستور دونها خبراء العمل القانوني والإجتماعي والسياسي فقط، بل ثقافة شعب في كيفية التعامل مع تلك البنود وتلك الثقافة يتم إكتسابها مع الوقت عن طريق فرضها بالقوة علي الجميع دون إعتبارات أخرى. أما في المشاكل الطائفية التي تحدث ضد الكانس والأقباط وخصوصاً في محافظة المنيا، فقد ظهرت ثقافة أخري بديلة لثقافة القانون تحكم سير الاحداث، ونري أنه مع مرور الزمن، أصبحت تلك الثقافة مكتسبة يترسخ وجودها حتي اصبحت في طريقها لتكون أمراً واقعياً يحكم ثقافة المجتمع.
منذ سنوات كان لو وجد إعتراض على بناء كنيسة، يكون في تحديد المكان داخل القرية أو النجع، وفي الغالب يشترك كل أبناء القرية في بناء الكنيسة كبيت لله سواء بالعمل أو المساندة فيخرج أبو محمد بالغذاء والشاي للعمال الذين يعملون في بناء الكنيسة بجانب منزله، ويتواجد فى وسطهم للعمل أو المسامرة بروح المحبة والجيرة والمودة.
وبعدها أصبح الإعتراض علي المساحة أو إرتفاع القبة او الصليب، وكان يتم حل ذلك بالتفاوض بين أهل القرية أو النجع وبعدها أصبح الإعتراض علي الكنيسة التي يتم الصلاة فيها منذ سنوات، لأنها لم تحصل علي تراخيص رغم إنه تم تقديم أوراق لها منذ عشرات السنوات ولم يتم البت فيها من الجهات المعنية، ومن ثم تطور الأمر وتحول الإعتراض إلى إعتداء وعنف علي تلك الكنيسة والمصليين فيها،
واخيراً في دمشاو هاشم وصل الأمر إلى الإعتداء علي الأقباط، ونهب ممتلكاتهم وتكسير منازلهم لترهيبهم من مجرد التفكير في الصلاة في بيوتهم حتي لا يفكروا يوماً ما أن تكون لهم كنيسة وتصبح مطالبهم فقط العيش في أمان بعيداً عن الإعتداءات.
وفي وسط ذلك ظهرت كيانات تتاجر بتلك الأحداث، مثل بيت العائلة الذي أقتصر دوره علي الدعوة لجلسة عرفية لفرض شروط المعتدي والتصالح معه تحت مسمي السلام الاجتماعي لأهل القرية، وقد تكالب علي تلك الكيانات كثيراً من سماسرة العمل السياسي والإجتماعي للظهور في المشهد والمتاجرة بألام الأقباط ومن ثم بأمن واستقرار الوطن.
وفي كل ذلك أنتفض رواد مواقع التواصل الإجتماعي أمس ضد دعوة تم إصدارها من جمعية داخل قرية دمشاو هاشم تطالب بيت العائلة بعقد جلسة عرفية تحت مسمي السلام الإجتماعي للقرية، وقد طالب الجميع بتطبيق القانون وفي هذا الشأن كتب الأنبا مكاريوس الأسقف العام للمنيا، علي حسابه في تويتر” نرفض رفضاً قاطعاً أي جلسات عرفية ولا نعترف بنتائجها ونشجب الضغط علي بعض البسطاء للجلوس إليها ، فهي تهدر الحقوق وغالباً ما تتم الترضية فيها على حساب الأقباط .
نحن مع دولة القانون والمواطنة التي ينادي بها الرئيس عبد الفتاح السيسي ” وتبعه في ذلك كثيراً من المثقفين والكتاب الذين عبروا عن رفضهم القاطع لتلك الجلسات واخياً أطالب مؤسسات الدولة المصري بفرض ثقافة دولة القانون، كما طالب ويطالب بها السيد الرئيس بكل حزم وقوة حتي تصبح ثقافة مكتسبة مع مرور الزمن، ولتكن قرية دمشاو هاشم هي البداية وإن كنت ارى إن وضع تلك الأحداث تحت طائلة الأحكام العسكرية هي الحل الأمثل والأقوي والاقرب لنشر ثقافة دولة القانون في قاع المجتمع المصري، الذي حدث فجوة كبيرة بينه وبين ثقافة دولة القانون.