انطلقت نحو مواقف الحافلات
وضعت قدمي على درج أول حافلة
محرك الحافلة يزمجر ومنبه الحافلة يصعق الآذان
أكتظ الأوتوبيس بالركاب عن آخره
وقفت في الممر أترنح
كدت أقع فأمسكت بمقبض أقرب كرسي لعجوز وجهه جاف متشقق
وقلت:
_ من بعد أذنك
وقفت بلطف حتى لا يسقط عكّازه
بحركة مفاجئة مدّ يده يحاول العبث بأصابعي
صددته. مرة مرتان لكن لم يكف عن شره
حاولت أن أستدير قليلاً في محاولة فاشلة مني وسط الزحام
تعمدت تجاهله علّه يخجل ولكن ظلت نظراته تنهش جسدي
وفيما ظللت مشدوهة لسلوكه؛ أبحت عن مبرر لفعلته إذ به
بجرأة يحاول الالتحام بساقي
تجردت من صبري ثم علا صوتي مستغيثة
(عار عليك؛ عجوز متصابي و.)
قاطعني بوقاحة قائلاً :
( هل جن عقلك يا بنت !؟ أنتِ أصغر من حفيدتي )
تقمص دور البريء واقسم بـ أغلظ الإيمان ثلاثاً إني كاذبة ثم رفع كفه داعياً الله أن يعاقبني
أخرسني الذهول ؛ لم أكن قادرة على استيعاب ما يحدث
والأدهى ، نظرات التعجب وكلمات الاستنكار التي راحت تنغرز في وجهي
بعدما تحولت الحافلة إلى ضجة كضجة السوق
وتجمهر حولي كل من أمتلك عقل ناقص
وقد عللوا رفضهم تصديقي بحجة أنه رجل مسن وهذه تهمة يستعصي عليه ارتكابها
هاجمني أشباه الرجال بسموم نظراتهم وقبح السنتهم
وعلت قهقهتاهم وتعليقاتهم واحد تلوالآخر
_ يا للمرأة..! كم فيها من خداع ومكر
_ صدقت ؛ جميع النساء أفاعٍ ملساء ناعمة
_ لا تعرف متى تغرز نابها في رقبتك وتنفث سمومها
_أظنها فعلت هذا لجلب الانتباه
_ وربما حيلة للسرقة
يقاطعهم صوت غليظ مشوه كصوت غراب يتساءل :
_ ولماذا هي دون سواها إلا اذا شجعته علي ذلك
صوت واحد أنسل من بين اللغط وقال :
_ وما يدريك لعلها تقول الحق
ضحكة ساخرة تتراقص على فم أحدهم وهو يرد :
_وهل يعقل هذا أنه عجوز مسكين وصحته ضعيفة
بعدها وبخني راكب يقف في نهاية الحافلة قائلاً:
_أنتِ مخطئة كان لابد أن تلتزمين الصمت وأن تجاوز هكذا يكون الحياء !!
كنت أسمع تعليقاتهم وضحكاتهم وأنا أشعر بالاشمئزاز تجاه قبح جهلهم وعبوديتهم لفكرة العادة
فلم أكن أتخيل ولا واحد في المليون حتي أن أصبح نجمة حفل العار
وحين اكتشفت أن محاولاتي للرد لا تجد نفعاً وقفت أتساءل
( كيف تضج دماؤهم في عروقهم حدّ الوجع للدفاع عن باطل جلي أمامهم ؟)
( كيف يهاجموني لرفضي سلوك مشين إرضاء لطبائعهم المخزية ؟)
(وبأي حق تكالبوا على الضحية بالقذف والخوض ورمي المحصنات)
كدت أجن حين وجدت نفسي وسط أفلاس مزمن من الأخلاق عندما استقرت في أذني عبارة
( لعلها عاهرة وهذه حيلة لاصطياد زبائن )
وعلت حناجر الذكور تؤيد هذا القول بل أقترح أحدهم أن يأخذوا رقم هاتفي علي سبيل الخدمة
حينها رد أخر وهو يتغامز:
_ اكيد ؛ خاصة أذا كانت ملامحها جميلة ، وذات عينين ناعستين
صاحت في رأسي زوبعة من الكلمات القاسية أردت أن أقذفها بوجوههم كي أثأر لكرامتي
وشعرت بالدماء تغلي في عروقي
سحبت حذائي منتفضة لوقف تلك المهزلة
وقتها تدخلت سيدة ومسكت بيدي دون مقدمات ورمقتني ببعض نظرات الاحتقار
وطلبت مني النزول في المحطة القادمة فقد تسببت في فوضي وفتنة عارمة على حد وصفها
للحظة وقفت أمام تصرفها مصدومة حائرة
ثم استجمعت شجاعتي وأنا أتعلّق بحافة باب الحافلة وبصقت عليهم
أثناء نزولي
قفزت إإلى الطرف الثاني من الشارع وهمتُ وسط الزحام
بينما أستمرت أصواتهم كعويل الذئاب تخترق أذني