كتب / أ : مصعب أبوبكر أحمد
هذا ومما استقبحوه قول المهلهل :
فلولا الريحُ أُ سمِعُ من بحُجْر
صليلَ البيض تقرع بالذكور
قالوا عنه أنه أكذب بيت قالته العرب ، إذ أن بين حجر – وهي قصية اليمامة – وبين مكان الوقعة عشرة أيام . كذلك لم يعجبهم قول شاعر الحماسة الحارثي :
ألا إنما غادرتِ ياِ أم مالكٍ
صدى أينما تذهب به الريح يذهب
فإنه يجافي الحقيقة مجافاة بعيدة ، حيث اعتبر الشاعر أن نفسه قد أصبحت من نحولها كصدى الصوت الذي توجهه الرياح أنى شاءت .
ومنه كذلك نقدهم لبيت المتنبيء :
كفى بجسمي نحولاً إنني رجلاً
لولا مخاطبتي إياك لم ترنِ
أقول : إن كل هذه المبالغات المتكلفة ليست مستساغة ، وقد اشتهر المتنبيء أكثر من سواه بمبالغاته وهو يغالي فيها أحياناً لحدٍ يمجه الطبع ، هذا وجدناه مثلاً في قصيدته التي مدح فيها ” سعيد بن عبدالله ابن الحسين الكلابي ” :
هو الأمير الذي بادت تميم به
قِدماً وساق إليها حَينُها الأجلا
لما رأهوه وخيل النصر مقبلةٌ
والحربُ غير عوانٍ أسلموا الحِللا
وضاقت الأرض حتى كان هاربهم
إذا رأى غير شيء ظنه رجلا
فبعدوه وإلى ذا اليوم لو ركضت
في لهوات الطفل ما سعلا
فانظر إليه في البيت الآخير إذ يقول : إن تميماً منذ أن هزمها وحتى هذا اليوم فقد أصبحت قليلة العدد ، ذليلة ، حتى إذا ركضت خيلها في لهواتِ صبي لما شعر بها . ومثل هذا الذي ذهب إليه الشاعر قد بلغ فيه ما لا يخطر بخيال سليم .
ولقد رأى النقاد في بيته الذي يسبق هذا البيت ، قوله : ” وضاقت الأرض حتى كان هاربهم… ” أنه مخالفة وآضحة للواقع ، فيه مبالغة لا تحمل ولا تستساغ . …
والرأي عندي عكس ماذهبوا إليه ، أرى أن الشاعر في هذا البيت لم يتعمد فيه المبالغة ، بل عمد فيه للصدق والدقة ، فهكذا تكون حال الهارب المذعور ، وقد يخيَّل له أنه رأى شخصاً من أعدائه وهو لم يبصر أحداً . فالبيت عندي جميل ومستساغ .
على أن مبالغة أبي الطيب المتنبيء المستساغة يمكن أن نحصرها في مثل بيته :
وما الدهر إلاّ من رواة قصائدي
إذا قلت شعراً أصبح الدهر منشدا
وهكذا نعود ونقول : إن الشعر الرفيع يقوم على المبالغة المستساغة كأصل من أصوله الفنية ، ونرى أن مايراد له من صدق يكون في مثل هذه المبالغة ، لأن تصويره للعاطفة المتأثرة المنفصلة لابد أن يؤدي به للجموح في الأخيلة ، وللجموح في التعبير .
* أبيات الاستشهاد : ديوان المهلهل بن ربيعة ، ديوان الحماسة الحارثي ، ديوان أبي الطيب المتتبيء
