سدّ النهضة هو أشهر السدود وأكثرُها إثارة للاهتمام في العصر الحديث بما يتضمّنُه من مشكلات متعدّدة الأبعاد، من منظور متعدّدٍ أيضاً. وهو السدُّ الذي تعمل أثيوبيا على بنائه على النيل الأزرق في ولاية بنيشنقول بهدف توليد الطاقة. وقد يصبح بعد اكتمالِه أكبر سدّ كهرومائيّ في القارّة الأفريقية، والعاشر عالميّاً في قائمة أكبر السدود إنتاجاً للكهرباء. ويقعُ السدّ على مسافة 20 كيلومتراً من الحدود السودانية، وتبلغ سعته التخزينية 74 بليون متر مكعب من المياه. وتقدَّر كلفة «سدّ النهضة» بـ 4.7 بليون دولار أميركي تساهم فيها الصين بحصة كبيرة إضافة إلى البنك الدولي وبعض مساهمات الدول الإقليمية. وسيبدأ تخزين المياه فيه بداية العام المقبل بنحو 30 بليون متر مكعب، وهي تعتبر مرحلة أولى للتخزين إذ إنّ سعة الخزان الفعلية هي 74 بليون متر مكعب. ويؤكد الخبراء أن بداية تداعيات إقامة السد هي أن تفقد مصر أمام كل خمسة بلايين متر مكعب من المياه مليون فدان من الأراضي الزراعية مما يحمل في طياته تهديداً مباشراً للأمن المائي المصري بل يعد الأكثر تهديداً لحياة 90 مليون مواطن.
عام 1929، وُقّعت اتفاقية بين مصر وبريطانيا العظمى نيابة عن دول حوض النيل التي كانت رزحت تحت الاستعمار البريطاني آنذاك (تنصّ الاتفاقية على أن تحصل مصر على 55.5 بليون متر مكعب من المياه من أصل 1600 بليون متر مكعب من الأمطار التي تسقط على حوض النهر. كما تنص على حق مصر بإخطارها مسبقاً قبل الشروع في إقامة أي سدّ على مجرى النهر). ومن المعروف أنّ الاتفاقات الدولية لا تسقط بالتقادم لكن دول المنبع تعترض الآن على بنود تلك الاتفاقية لأنّها لم توقّعها، وبالتالي تدعي أنها غير ملزمة لها وأنّ لها الحق في التنمية وتوليد الطاقة.
الموقف الأثيوبي
تعتبر أديس أبابا أن اتفاقية تقسيم مياه نهر النيل غير عادلة ولم تراع مصالح الشعب الأثيوبي الذي لم يُستشر. كما أن توقيع الاتفاقية حصل في فترة الانتداب البريطاني على أثيوبيا، وترى أن التطور الذي شهده القانون الدولي يسمح لها بمراجعة تلك الاتفاقات وعدم الالتزام بها، وأن من حقها إقامة السدود لتحقيق التنمية وإطعام شعبها الذي تفتك به المجاعات حتى لو أدّى ذلك إلى قطع المياه عن دول المصبّ (مصر والسودان). وإضافة إلى ذلك صرّح بعض المسؤولين بأن من حق أثيوبيا بيع المياه كما يبيع العرب النفط، وطالبت بعض وسائل الإعلام مصر بأن تدفع ثمن المياه التي تستخدمها.
الموقف السوداني
لا يعتمد السودان على مياه نهر النيل إلا بنسبة 10 في المئة لوجود أمطار هائلة، ويقدر حجم مياه الأمطار في السودان بألف بليون متر مكعب لا يستفاد الا بنسبة 1 في المئة منها ويذهب الباقي هدراً من دون الاستفادة منه.
لذلك لا يعارض النظام السوداني بناء «سدّ النهضة» وخصوصاً بعد أن نجحت أديس أبابا في استقطاب حركات التمرد داخل دارفور واستضافة مفاوضات بينها وبين نظام البشير، إضافة إلى تغلغل أثيوبيا في المشهد السياسي السوداني برمته وربما استئثارها بالقرار السياسي لنظام الإنقاذ سواء من خلال المفاوضات التي تتم بين الخرطوم ودولة جنوب السودان لحل القضايا العالقة بينهما، أو من خلال مفاوضات تتعلق بكردفان والنيل الأزرق، ناهيك بوجود قوات أثيوبية مسلحة في منطقة أبيي المتنازع عليها. وبعد أن أصبح الرئيس السوداني عمر حسن البشير مطلوباً لمحكمة الجنايات الدولية امتثل قراره السياسي لإرادة أديس أبابا.
الموقف المصري
دخلت الديبلوماسية المصرية في مفاوضات فاشلة وعقيمة مع الجانب الأثيوبي منذ نيسان (أبريل) 2011، فقد نجح الأخير في سياسة استهلاك الوقت حتى اكتمال بناء السدّ في العام 2017. وبالتالي يجد الجانب المصري نفسه أمام سياسة فرض الأمر الواقع. وظهر المفاوض المصري في موقف العاجز القليل الحيلة، فهو لم يستخدم أي أوراق ضغط على الجانب الأثيوبي الذي مارس التعنت والتأجيل. وكان على الجانب المصري المطالبة بوقف أعمال البناء في «سدّ النهضة» كشرط أساسي قبل المفاوضات واستخدام نفوذ مصر عربياً وأفريقياً أو الانسحاب من مفاوضات عقيمة قد تكون تداعياتها اغتيال 90 مليون مصري.
من المعروف أن حجم الموارد المائية في مصر يقارب 72 بليون متر مكعب (55.5 بليون متر مكعب من مياه النيل و7.4 بليون متر مكعب مياه جوفية و9.1 بليون متر مكعب من مياه معالجة الصرف الصحي وأخيراً 0.05 بليون متر مكعب من مياه التحلية). ويتضح من خلال التوزيع أن مياه النيل هي المصدر الرئيسي للمياه لذلك يعتبر نهر النيل شريان الحياة للشعب المصري لذلك فهناك حاجة ملحة أمام الحكومة المصرية للدفاع عن مكتسبات مصر التاريخية وأن تسعى جاهدة الى البحث عن مصادر جديدة للمياه تواكب الزيادة الهائلة في عدد السكان.
الدور الإسرائيلي
بدأ التوغل الإسرائيلي داخل القارة الأفريقية ربما في سبعينات القرن الماضي من خلال أطول جسر جويّ بين تل أبيب وأثيوبيا لنقل ما يزيد على 17 ألف يهودي من الفلاشا في دراما التوطين التاريخية.
حاولت إسرائيل عقب توقيع معاهدة كامب ديفيد إقناع الرئيس المصري أنور السادات بنقل جزء من مياه النيل إلى صحراء النقب، لكنه رفض ذلك. ففتحت الدولة العبرية قنوات مع دول منابع النيل وبخاصة أوغندا وأثيوبيا، واندفعت الاستثمارات الاسرائيلية الى أديس أبابا. وفي ثمانينات القرن الماضي وصل خبراء إسرائيليون إلى أثيوبيا وأوغندا لإجراء أبحاث تستهدف إقامة مشاريع للري على النيل بهدف خنق مصر، وذلك على رغم انتفاء الحاجة إلى مشاريع ري حقيقية في أوغندا التي تتلقى أمطاراً غزيرة تقارب سنويّاً 114 بليون متر مكعب.
لم يقتصر التعاون الإسرائيلي – الأثيوبي على مشاريع الري والزراعة بل تطور إلى تعاون عسكري. فقد منحت إسرائيل أثيوبيا معلومات استخباراتية مهمّة عن القرن الأفريقي إضافة إلى أسلحة ومعدّات عسكرية وذخائر. كما جرى تدريب طيارين اثيوبيين في قواعد جوية إسرائيلية، وتمخض عن ذلك التعاون تبادل الزيارات لمسؤولين في البلدين، فقد زار رئيس وزراء أثيوبيا الأسبق ميليس زيناوي تل أبيب مراراً لتوقيع اتفاقات. لذلك لا يخفى على أحد الدور الاسرائيلي المشبوه في عملية بناء سد النهضة.
مما سبق يتضح ما يأتي:
1- ضُلّل الرأي العام الأثيوبي من طريق الإعلام الممول إسرائيلياً بمفاهيم مغلوطة وخاطئة مفادها بأن مصر تستخدم مياه النيل الاثيوبية من دون مقابل، لذلك أصبحت أراضي الحبشة مفعمة بمناخ عدائي تجاه الدولة المصرية.
2- لم تستخدم الحكومة المصرية أي أوراق ضغط حتى الآن على الجانب الأثيوبي مثل جامعة الدول العربية أو مجلس السلم والأمن الأفريقي أو منظمة الأمم المتحدة أو اللجوء إلى التحكيم الدولي. ولم تلجأ مصر إلى القوى الناعمة (الكنيسة والأزهر) كوسيلة ضغط، وهذا يؤكد ضعف الهيكل التفاوضي وإفلاسه الفكري.
3- من الظلم أن يناط ملف سد النهضة بوزارة الخارجية وحدها أو وزراة الري. ومن العبث اقتصار الملف على الخيار السياسي كخيار وحيد، فهو ليس ملف أمن قومي فحسب، بل مسألة حياة أو موت للمصريين.
4- على الجانب الأثيوبي أن يعي أن مصر لديها الكثير من الخيارات التي لم تستخدم والأدوات التي لم تفعل وأن قواتها البحرية موجودة في جنوب البحر الأحمر، وتحديداً مضيق باب المندب على مسافة كيلومترات من العاصمة أديس أبابا.
تمثل المياه أحد التحديات التي تواجه القرن الحالي ولا يمكن تحقيق الأمن القومي لأي دولة من دون تحقيق أمنها الاقتصادي ولا يمكن تحقيق الأمن الاقتصادي من دون تحقيق الاكتفاء الغذائي. ولا شك في أن عصب الأمن الغذائي هو المياه. ولتحقيق الأمن المائي يجب المحافظة على الموارد المائية من أنهار وآبار جوفية أو حتى مياه الأمطار المتوافرة وترشيد استخدامها. لذلك على الحكومة المصرية أن تبحث عن حلول جوهرية وعاجلة تحفظ حياة 90 مليون مواطن أو تتنحى جانباً وتترك الفرصة لمن يتحمل المسؤولية من أبناء مصر وإلا ستكون تداعيات «سدّ النهضة» كارثية على الجميع ولن يرحم التاريخ أحداً.