أنفاسها اللاهثة، وصوت خطواتها مع هبات الريح الخفيفة في وقت الظهيرة هي كل ما يسمع، عائدة من المدرسة إلى بيتها ولكن قدماها كان لهما رأي آخر، أخذا طريقهما للقبور كالعادة ،فالمكان الوحيد الذي تتنفس فيه حقا هناك أمام قبر والدتها،
تجلس على الثرى تتحسسه بيديها ،تود لو تختلط به، لو تتلاشى بين ذراته فتتلاشى معاناتها ، أو تلفظ روحها هناك وليعطوها روحا تناسب ما يريدونه لها، أناتها ودموعها هي كل ما تستطيع أن تبوح به،
لا تصدق أنها فقدتها بتلك السهولة، مرضها المفاجئ، وعجز الطب أمام ذلك المرض الخبيث، لتصبح وحيدة رغم عزوتها،
جاء الوقت الذي خشيته طويلا لكنها ستواجهه اليوم دون مساعدة، كلمات والدها لا تغادر ذاكرتها “أنه آخر يوم لكي بهذه المدرسة التي لم يعد لها فائده، وستزفين لابن عمك بآخر الشهر”،
كلماتها أبت أن تغادر فمها أمام نظرته الزاجرة وعروقه النافرة، سندها الوحيد ترقد تحت الثرى ولا تستطيع لها وصالا، لا تعلم أتكون ممتنة لها أن فتحت عينيها وقلبها على أنه ليس عليها أن تعيش نفس الحياة وتكرر نفس الأخطاء
أم أنه كان عليها إلا تعرف ،ألا تفهم، وألا ترى الفرق، تتذكر كلماتها “يوما ما ستكونين قادرة على صنع حياة تليق بك،وحتى ذلك اليوم لا تيأسي فطريقك مازال طويلا” ،
نسمات الهواء التي اشتدت وباتت كالزوابع غاضبة لحالها،والشمس التى انكسرت حزنا عليها، أخبراها أن وقت البوح انتهى وآن أوان الرحيل.
تجرجر قدميها عائدة تتراءى لها صور صديقاتها كأنهم أبطال على مسرح هزلي، تلمع العيون كما تلمع تلك الحلقات حول اصابعهن، التنهيدات وخفقات القلوب إثارة للحدث الجديد، الأمنيات التي ترسمنها في الرمال فيعبث بها الموج مرة بعد مرة،
حتى لا يتذكرن أنها رسمت يوما، وعندما تنقل الحلقة من كف لأخرى، يسكن الوجوم الملامح، تنطفئ لمعة العيون وتتجرع النفوس الخيبات واحدة واحدة،
تشاركت معهن صفا واحدا، وتتمنى لو أنها لا تشاركهن المصير ، تدرك أن الايام ستحملها سريعا لآخر الشهر،وأنه لا خيار لها سوى المواجهه،تتلمس أثر والدتها في صفحة وجه أبيها،
تلمح دمعاته التي يخفيها خلف غضبه الدائم، تذكِّره ببقايا أمنيات لها، تعلم أن طريقها إلى عقله طويل، وإلى قلبه أطول، وعليها أن تقطعه سريعا، لأن القدر لا يمهلها إلا لآخر الشهر.