في أخر زياره لبيت جدي الذي لازال يسكن الريف ورفض العيش، في المدينه. رأيته جالساً لوحده في ليلة شتاء بارده في ذلك الكوخ الطيني المعزول عن المنزل. لأن جدي كان يكره الضجيج الذي يحدثه صراخ الصبيه. وثغاء الحيوانات.
كان يجلس القرفصاء. وهو يقلب أعواد الخشب المشتعلة داخل آنية طينيه. بينما يعلوا الدخان المتصاعد من هذه الآنيه المشتعله لكي يتجمع في قرب سقف الكوخ الطيني. هذا الدخان الذي أنتابني بسببه نوبة من السعال الشديد أول دخولي للكوخ
كان جدي يضحك على ما أنا فيه. وطلب مني الجلوس وهو يقلب الجمر الأحمر بواسطة مقبض حديدي ويدفع بها نحو مجموعة من الدلال المختلفه في حجومها
لقد كان وجهه يتلألأ وهو يتعرض لحرارة الموقد حتى تحول لون وجهه إلى لون نحاسي طلي بعنايه
سلمت عليه. فرد السلام والابتسامة تعلو وجهه. احسست وانا أتطلع إليه وهو يبتسم أن تلك الابتسامة حملت إلى نفسي كل معاني الرجوله في الصدق والأمان والثقه والإخلاص والشجاعه والتسليم والتوكل.
عرض عليي فنجان من القهوه.. فوافقت. لكنه تذوق القهوه فلم تعجبه وطلب مني الانتظار قليلا. لأنها لم تكتمل بعد حسب مذاقه. ثم سألني قائلا.
كيف هي الأحوال عندكم؟
فأجبته انها بخير.. فقال وكيف هي بخير؟
فقلت اننا ننعم بالحضارة. فكل شيئ مختلف هناك عن الحياة في هذا المكان
فقال اي خير هذا. لقد دمرتكم الحضاره وجعلتكم عبيد لها
فقلت بامتعاض.. الحضاره استبدلت هذه الآنيه الطينيه. بمدفأ كهربائية
الحضاره جعلتنا نمتلك أنواع المشروبات الغازية المختلفه باللون والطعم دون أن نتجشم العناء في صنع شراب كشراب هذه القهوه
الحضاره هيأت لنا القنوات الفضائية وأجهزة الاتصالات و
والانترنت.
الحضاره هيئت لنا وسائل النقل واكتشاف الفضاء والتقدم بالطب والهندسه والفنون الأخرى.
هيا أخبرني ماذا قدمت لك هذه الأرض سوى البؤوس والفقر والتخلف والأمراض
قال لي بهدوء… هل انتهيت… قلت نعم انتهيت
قال. نعم اشهد بذلك. ان الحضاره سهلت الكثير من الأمور للإنسان. ولكنها وبدون قصد وبسبب هذا الإنسان وليست الحضاره..استطاعت قتل إنسانية الإنسان فيكم
لقد قتلت الدمعه في عيونكم والبسمة في شفاهكم والأمان في نفوسكم والمتعه في غرائزكم والراحه في أجسادكم واليقين في ضمائركم
فأستعبدكم الاحتياج. وتعددت بكم السبل وتغيرت بك الأحوال. وتلونت بكم المشاكل وتنوعت بكم المصائب
حتى امسيتم تهربون هروب المستضل من المطر في ماءالبحر. وتتعايشون تعايش الضباع على الفريسه
وتتقاتلون لأتفه الأسباب. تبدلت انعامكم وذهب طيبها ولونها وطعمها حتى أصبح طعامكم مثل الفلين بلا طعم.. ونومكم مثل نوم الأموات. وانهكتم الدنيا مثلما اُنهك الأحمق الذي يطارد ظله. والمتنكر بأغماض عينه. والمعتاش في مناقب أجداده
أنحدر الحياء بكم. وأعشوشب النفاق في حديثكم. تتصنعون التقوى ولستم بأهلها وتلبسون الدين لبس المشفق من الزمهرير. حتى إذا دفئت أوصاله. رمى بملبسه. همكم الجمع لعيونكم. حتى أصبحتم لاتقفون عند قناعه. ولا تطمئنون إلى غايه.
لم يدفعكم سؤال الأٍ إلى مصلحه. منهجكم إذا قدرتم القسوة والغلظه وانتم تدعون الرحمه ولستم باهلها
أوقاتكم قصيره. ومشاغلكم مزدحمة
بأس الحياة التي تتنابزون بها وانتم عبيد في نهارها. واموات في ليلها. لم يجمع جمعكم ألاّ إلى ضروره. ولم تخطوا خطاكم الا مصلحه
هل تعلم لماذا اعتزل في مكان كهذا المكان الذي لايعجبك.
اعتزل لأنني استنشق هذا الدخان. خير لي من استنشاق الحقد والبغض والكراهية والخيانه التي تعطرت بها أنفاسكم. وانتم تتحدثون بالحب والإخلاص إلى بعضكم
أعتزل. لأنني أرى في هذه القهوه الشديدة المروره لذة هي ألذ من العسل المغشوش الذي تضعونه على موائدكم
أعتزل لأنني أجد في هذا الكوخ. أماناً أعظم من أمانكم لأنني لا أخشى غير الله. والله لايظلم العبد إذا لم يكن العبد ظالماً لنفسه