بقلم : د. محمد أبو العلا
سافر أحمد رامي إلى فرنسا عام 1922 لتعلم نظام التوثيق، فحصل على شهادةٍ في الوثائق والمكتبات من جامعة السوربون، وكان من ضمن ما تعلمه اللغات الشرقية، وقد تخصص في الفارسية؛ فترجم رباعيات عمر الخيام ذلك الشاعر المتصوف العاشق، والشعر الرباعي لونٌ ظهر في الشعر الفارسي أولاً قبل أن ينتقل إلى العربية ـ حسب روايات شبكة المعلومات ـ يشار إليه بمقطوعاتٍ شعريةٍ من أربعة أبياتٍ تحمل موضوعاً محدداً، بحيث يُكوَّن فكرةً تامة، المهم أن أحمد رامي قام بترجمة تلك الرباعيات أثناء بعثته؛ أي عام1922، وقد حدثت له مفارقةٌ غريبةٌ من نوعها، فأثناء قيامه بوزن الشعر الذي ترجمه، وضع له لحناً من تخيله يدندن به ، فإذا بصديقه في الغرفة وكان مُختصاً في الموسيقى يسأله” أتدري من أي مقامٍ تتغنى بهذا اللحن ؟ فأجابه أحمد رامي: لا علم لي بالموسيقى ولا المقامات الموسيقية، فرد عليه ذلك المختص بقوله “إن هذا المقام هو مقام الرصد النيسابوري أو الكرد”، فكانت المفارقة أن نيسابور هي بلدة الشاعر عمر الخيام، وقد دندن أحمد رامي بلحنٍ من هذا المقام دون درايةٍ منه!، المفارقة الأعجب أن رياض السنباطي كان يلحن بالفطرة دون معرفةٍ منه ببلدة الشاعر، وإذا به بعدما تغنت أم كلثوم بالأغنية عام 1949، أي بعد سبعٍة وعشرين عاماً، إذ بصديق رامي يتصل عليه قائلاً : إن السنباطي قد لحَّن الأغنية من الكرد النيسابوري أيضاً، وطبعاً لم يكن ذلك بدرايةٍ منه، ولكنها روح الشاعر التي فرضت نفسها على كلٍ من الكاتب والملحن، وتقول الكلمات التي اختارها أحمد رامي لتتغنى بها أم كلثوم :
سمعت صوتاً هاتفاً من السحر نادى من الغيب غُفاة البشر
هبوا املئوا كأس الطلى قبل أن تفعم كأس العمر كف القدر
وقد طلبت أم كلثوم كعادتها تعديل تلك الكلمات، فأصبحت :
سمعت صوتاً هاتفاً من السحر نادى من الغيب غفاة البشر
هبوا املئوا كاس المُنى قبل أن تملأ كاس العمر كف القدر .
والجميل في تلك القصيدة أنها تتناول مرحلتين مختلفتين متناقضتين تماماً للشاعر نفسه، الأولى مرحلة المُجون التي عاشها وهو يحب الخمر والنساء، فيدعو إلى شرب الخمر وقت السحر، الذي تتنزل فيه الرحمات الإلهية، معللاً ذلك بأن الإنسان عليه أن يحيا حياته، وأن يشبع شهواته، معقباً ذلك بقوله :
لا تشغل البال بماضي الزمان ولا بآتِ العيش قبل الأوان
واغنم من الحاضر لذاته فليس في طبع الليالي الأمان
وهو مانسميه الآن بين الشباب” عيش اللحظة “، لا تفكر فيما سيأتي ولا فيما مضى، واغتنم الواقع لأن الزمان يتبدل فلا يبقى من الفرح إلا ذكرى جميلة، وسرعان ما تتبدل الأحوال .