كتبت :نعمه احمد تعتبر ظاهرة الثأر من أخطر الظواهر الاجتماعية التي عانت منها المجتمعات البشرية ، وهي قديمة قِدَمَ الوجود البشري على سطح البسيطة. وتعتبر من أخطر ما يهدد سلامة وأمن وسكينة المجتمعات ، كما تعتبر العدو الأول للتنمية والتطوير. وهذه الظاهرة من أعقد وأصعب الظواهر التي تؤثر في حياة المجتمع اليمني ، وتعد من أسوأ العادات الاجتماعية الموروثة التي تهدد الأمن والسلم الاجتماعي وتعيق عملية التنمية في البلاد وتؤدي إلى سفك دماء الكثير من الأبرياء وإلى قيام العديد من الحروب والنزاعات القبلية ؛ ولذلك فقد أصبح من الضروري دراسة هذه المشكلة دراسة علمية جادة تجسد إرادة الدولة القوية وتوجهاتها الجادة لمعالجة هذه الظاهرة والحد منها وترسيخ الأمن والاستقرار في أرجاء البلاد.
وظاهرة الثأر من العادات السيئة ، ومن بقايا الجاهلية التي كانت منتشرة في الناس قبل الإسلام ، فلما أشرق الإسلام بتعاليمه السمحة ، قضى على هذه الظاهرة وشرع القصاص ، حيث يطبق بالعدل ، ويقوم به ولي الأمر ، وليس آحاد الناس حتى لا تكون الحياة فوضى•[3].
وتنتشر هذه الظاهرة في المجتمعات القَبَلِيَّة ، والتي تتميز بقوة العصبية القبلية فيها. ومن هذه المجتمعات القبائل العربية عموماً ، والمنتشرة في جميع أراضي الوطن العربي الكبير. وتزداد هذه الظاهرة كلما ازدادت مظاهر وجود القبيلة. ومن النماذج الأكثر وضوحاً في هذا المجال: المجتمع اليمني ، ومجتمع صعيد مصر.
وتعتبر اليمن نموذجاً فريداً ومميزاً لهذه المجتمعات القبلية المشبعة بـظاهرة الثأر القبلي ، إذ يغلب الطابع القبلي على البنية الاجتماعية اليمنية ، وتشكل ظاهرة الثأر محوراً أساسياً ارتبط وجوده بوجود القبيلة اليمنية.
ويحصد الثأر أراوح آلاف اليمنيين خلال سنوات قليلة[4]. وهكذا يفعل أينما حل ، في أية دولة أو قبيلة أو مجتمع. الأمر الثاني من خصائص ظاهرة الثأر أن التخلف عن القيام بهذا الواجب الجاهلي كما يعتقد أصحابه يُوصَفُ بالمَذَمَّة والعار ، حيث يقال عنه: «لا يأخذ بثأر ولا يحمي عار» ، أو يقال باللهجة المصرية: «ياما الخِلْفَة النَّدَامَة تِجِيب لأهلها العار». الأمر الثالث من خصائص ظاهرة الثأر: أنه لا مجال للصلح لدى بعض القبائل التي تنتشر فيها عادة العصبية ، فإذا قُتِلَ قتيل على سبيل العمد فلا مجال للصلح لديهم. الفرق بين الثأر والقِصَاص
هناك فرق واضح بين الثأر والذي يعتبر عصبية جاهلية ، وبين حكم الله الذي شرعه لنا المُتَمَثِّلُ بحكم القِصَاص حيث يؤخذ في القصاص بشخصية العقوبة ، بمعنى أنَّ الذي يُقْتَل هو القاتل الذي ثبت ارتكابه للجريمة بعد محاكمة شرعية عادلة يَثْبُتُ مِنْ خلالها بيقينٍ أنَّ هذا هو الذي قَتَلَ فلاناً ، وبذلك نقيم عليه القصاص[14]. فيما الشيء الثاني: أن القصاص تقيمه الدولة بعد محاكمةٍ عادلةٍ ، فيما الثأر تقوم به القبيلة أو الشخص أخذاً بالمَضَنَّة ، ودون أن يكون هناك دليل قاطع بأن فلاناً هو الذي ارتكب هذه الجريمة. والشيء الثالث: في هذه المفارقات هو أن في القصاص تتكافأ دماء المسلمين في القَدْرِ والمنزِلَة ، ولذلك يقول النبي (صلى الله عليه وسلم): (الْمُؤْمِنُوْنَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ ، وَيَسْعَىْ بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ ، وَهُمْ يَدٌ عَلَىْ مَنْ سِوَاهُمْ». الشيء الرابع: أن القصاص يهدف إلى معاقبة الجاني بِمِثْلِ فعلِهِ ورَدْعِهِ وزَجْرِ غيرِهِ وتطهيره من الإثم ؛ لأن العقوبة كما ثبت لدى فقهاء الشريعة أنها ردع وزجر وتطهير للجاني من الإثم الذي لحقه جراء ارتكابه للجريمة. والشيء الخامس: أن القصاص يحسم تداعيات الفتن ، فكأنما توضع هذه الجمرة من النار في الماء فتنطفئ ؛ ولذلك يقول الله سبحانه وتعالى: «وَلَكُمْ فِيْ الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِيْ الأَلْبَابِ»[15]. أما الثأر فإنه بداية لِتَفَجُّرِ الدماء وتَعَاقُبِ أحداثِ الثأر ؛ ولذلك نقول: إِنَّ الدَّمَ لايُوَلِّدُ إلا الدَّمَ ، والعُنْفَ لا يُوَلِّدُ إلا العُنْفَ ، والفَنَاءُ عُمْلَةٌ مُتَدَاوَلَةٌ بينَ طَرَفَيِ الصِّرَاعِ. الشيء السادس: أن الصلح أمر مقبول وجائز في الشرع الإسلامي أو في القصاص ، بمعنى أن أولياء الدم يُسْتَرْضَوْنَ لكي يعفوا عن القاتل ، أما في الثأر فلا مجال للعفو فيه. وقد سبق سرد بعض الأشعار الشعبية التي تدل على ما في النفوس من عزمٍ وإصرارٍ على قتل القاتلِ فلا مجال فيه للرحمة ، ففي الثأر تؤخذ الجماعة بالواحد ، وفي الشريعة الإسلامية إذا قتل مجموعة من الأشخاص شخصاً واحداً فإنهم جميعاً يُقْتَلُونَ به. وكما حصل في صنعاء أيام سيدنا عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) عندما قال كلمته المشهورة: «وَاللهِ لَوْ تَمَالَأَ أَهْلُ صنعاءَ جَمِيعُهُم على قَتْلِ رَجُلٍ واحدٍ لَقَتَلْتُهُمْ بِهِ». بمعنى لو اجتمعَ مجموعة من الأشخاص واتفقوا وتواطأوا على قتل رجل ثم قتلوه ، فإنهم جميعاً يُقتَلُونَ به. لكن هذه المسألة فيها نظر فيما يتعلق بقضايا الثأر. فليس هناك عقوبة أخرى على الجاني بعد تطبيق القصاص. لكن في الثأر هناك ما يسمى بـ: العُيُوب والعُتُوب والحَشَم والمُحَدَّش والمُرَبَّع ، وغيرها من الأمور التي ما أنزل الله بها من سلطان[2].
موقف الإسلام من الثأر
لقد وضع الله سبحانه وتعالى في جرائم الحدود والقِصَاص عقوبات ، ولم يترك للناس تقديرها ؛ نظراً لأهميتها. وساوى بين الناس جميعاً ، فليس هناك فرق بين الناس ومراتبهم وأقدارهم ، فهي متساوية ، فلا فرق بين وضيع أو شريف ولا غني أو فقير لقوله تعالى: «كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِيْ الْقَتْلَىْ الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ»[16]. وجميع الشرائع السماوية نَصَّتْ على عقوبة القتل ، فليس هناك مجال لكي نتخلص من هذا الجزاء كونه سَيُجَسِّمُ تداعيات الفتن لقوله تعالى : «وَلَكُمْ فِيْ الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِيْ الأَلْبَابِ»[17]. والأمرُ الآخَرُ: إن مما يشير إلى خطورة هذه الظاهرة ، أن الدماء هي أول أمر يقضي الله سبحانه وتعالى فيه بين الناس يوم القيامة وهذا يدل على أن لهذه الدماء حرمة ، والرسول (صلى الله عليه وسلم) يقول : «أَوَّلُ مَا يُقْضَىْ بَيْنَ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيْ الدِّمَاءِ». فالله سبحانه وتعالى قد تَوَعَّدَ مرتكبها بالخلود في جهنم ، وليس له توبة هذا عند بعض الفقهاء الذين قالوا: لا توبة للقاتل عمداً وعدواناً ، ومنهم ابن عباس ، قال: لأن هذه الآية كانت آخر ما نزل من آيات القرآن الكريم ، فلم يوجد لها ناسخ ، والآية هي: «وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنَاً مُتَعَمِّدَاً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدَاً فِيْهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابَاً عَظِيْمَاً»[18]. وهذه القضية يشير إليها ويؤكدها قول النبي (صلى الله عليه وسلم): «كُلُّ ذَنْبٍ عَسَىْ اللهُ أَنْ يَغْفِرَهُ إِلاَّ الرَّجُلُ يَقْتُلُ الْمُؤْمِنَ مُتَعَمِّدَاً أَوِ الرَّجُلُ يَمُوْتُ كَافِرَاً». وقوله (ص): «لَزَوَالُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَىْ اللهِ مِنْ قَتْلِ اِمْرِئٍ مُسْلِمٍ بِغَيْرِ حَقٍّ». الثأر في صعيد مصر
لا يختلف الثأر في صعيد مصر عن الثأر في اليمن ، خصوصاً وأن الكثير من سكان صعيد مصر هم من القبائل اليمنية المهاجرة إبان عصر الفتوحات الإسلامية الأولى.
والمطالبة بالثأر لها ضوابط معروفة في الصعيد ، فالأبناء هم الأحق بالقصاص لدم أبيهم ، يليهم الأخوة الأشقاء ، فالأخوة غير الأشقاء ، وإذا لم يكن للقتيل أبناء أو إخوة ، فحق المطالبة بالدم ينتقل إلى أبناء العم الأشقاء ، ومنهم إلى أبناء العمومة غير الأشقاء ، والثأر في الصعيد لا يلزم سوى أقارب “الدم” أي من ناحية الأب ، ولا علاقة لأقارب الأم بعملية الثأر ، وإن كان الأمر لا يخلو من الدعم والمساعدة ، ولا يسقط حق الثأر بـ”التقادم” ، حتى لو ظل القاتل سنوات طويلة مختفياً أو خلف القضبان ، ففي إحدى قرى البَدْرَشِين بالجِيزَة قَتَلَ شابان شيخاً في السبعين من عمره ثأراً لوالدهم رغم مرور (50) عاماً على مصرعه ، وتكرر الأمر في إحدى قرى محافظة المنيا ، حيث أصرت الجدة على الثأر لولدها رغم مرور خمسين عاماً على مقتله ، قضى القاتل نصفها في السجن ، وحفزت حفيدها على القصاص لوالده ، وكانت النهاية المحتومة.
وغني عن القول أن أهالي الصعيد لا يعتبرون السجن بديلاً عن الثأر ، فحق الدولة غير حقهم ، وقانونها غير قانونهم ، وعندما يطرح هذا الأمر على الصعايدة ، تجدهم يجيبون بتلقائية “القبر أضيق كثيراً من الزنزانة” ، وترتبط ظاهرة الثأر في الصعيد ارتباطاً مباشراً بعادة اقتناء السلاح المتأصلة لدى قبائل وعائلات الصعيد ، فالصعيدي يضع البندقية في منزلة الابن ، وغالباً ما لا تفارق كتفه إلا عند النوم ، ولا يفكر في بيعها مهما بلغت ضائقته المالية ، ومعظم أبناء الصعيد ممن فوق العاشرة يجيدون استخدام السلاح ؛ لأن في عرف الصعايدة: “العز في أفواه البنادق”[19] لا شك أن العصبية القبلية تلعب دوراً هاماً في تجذير ظاهرة الثأر في المجتمعات القبلية ، فمن الملاحظ أن المناطق التي تقوى فيها العصبية القبلية وترتفع أهمية الانتماء القبلي فيها ، فإن نسبة الثأر تكون أكثر ارتفاعاً من المناطق التي تقل فيها العصبية القبلية. أسباب الثأر
للثأر أسباب عديدة ، أهمها[20]:
النزاعات والخلافات الجغرافية. انتشار السلاح[21]. ضعف الوازع الديني. ضعف الدولة المركزية. ضعف أداء الجهاز الأمني ، وضعف الدولة في ضبط الجناة الذين يقومون بقتل الغير. ضعف أداء جهاز القضاء ، وغياب العدل ، وانتشار الفساد والرشوة والمحسوبية ، وضعف تطبيق سلطة القانون[22]. الأسباب السياسية والتوظيف السياسي: عندما كان الإمام يضرب قبيلة بقبيلة أخرى ، فمثلاً ضرب الإمام قبيلة قيفة بخولان ، ثم ضرب خولان بقيفة ، وهذه القضية هي أثر من آثار السياسة التي استخدمها الإمام ولا تزال بعض حوادثها قائمة حتى الآن. الحروب القبلية. عدم القبول بالترافع أمام أجهزة القضاء وعدم الإبلاغ عن أسماء الجناة. اتساع قضايا القطاع القبلي. مبدأ التكايل بالدم والذي كان مبدأً جاهلياً انتشر بين أهل الجاهلية. انتشار ظاهرة الرُّبَاعَة القبلية ، أي أن يَفِرَّ القاتلُ إلى قبيلة أخرى فَيَتَرَبَّعُ بها ، أي يلتجئ إليها ويطلب حمايتها. مع العلم أن من الأعراف القبلية أعراف وعادات حميدة ، وفي هذه الحالة يطلق على هذا الرجل الطالب للرباعة اسم: ربيع ، والربيع نوعان: ربيع الغَوَى ، ورَبِيع السَّوَى ، أما الأول (ربيع الغَوَى) فهو الظالم المخطئ الذي يطلب الحماية ، وأما الثاني (ربيع السَّوَى) فهو المظلوم المغلوب على حقه. العصبية القبلية وانتشار بعض الأعراف والعادات القبلية السيئة الأخرى ، ومنها: قتل غير القاتل. غيرها من الأسباب الثانوية.
علاج ظاهرة الثأر
تعزيز الوازع الديني لدى الأفراد. قيام الدولة بواجباتها تجاه المجتمع. تعزيز دور الجانب الأمني. تفعيل دور جهاز القضاء ، وتطهيره من الفساد الإداري والسياسي ، وتمكين أجهزة العدالة من القيام بواجباتها ومهامها بعيداً عن الضغوط القبلية والسياسية. القضاء على ظاهرة حمل السلاح ، من خلال تنظيم حمل وحيازة السلاح.