بِقَلَمٍ / مُجَاهِدُ منعثر مُنْشِدٌ بَيْدَ مرتجفة مُرْتَفِعَةٌ نَحْوَ العلا, وَنَظَرٌ بِعَيْنَيْنِ تُغْرِقُهُمَا الدُّمُوعُ, وَصَوَّتَ تُخَفِّضُهُ وَتُقَطِّعُهُ اللَّوْعَةُ القَاسِيَةُ سَمِعَتْهَا فِي ظَلَمَةِ اللَّيْلِ مِنْ وَرَاءِ قُضْبَانِ الحَدِيدِ المَصْبُوغَةُ بِاللَّوْنِ الْاحْمَر تُصَرِّحُ قَائِلَةً: رَحِمَاكَ رَبِّي خُذْ أَمَانَتَكَ? رَايَتَهَا ذَلِكَ اليَوْمَ صَبَاحُ اِعْتِقَالَيْ فِي التِّسْعِينَياتِ, شَابَهَ بِعُمْرِ الزُّهُورِ تُهْمَتَهَا: شَرِيفَةٌ وَوَالِدُهَا مُعَارِضٌ, جَمَعْنَا الوُقُوفُ بِغُرْفَةِ ضَابِطٍ مَنْزُوعٌ الغَيْرَةِ, بِرُزِّت عَضَلَاتُ لِسَانِهِ أَمَامَهَا صَارِخًا بِوَجْهِي: خَائِنٌ تَسَهَّلَ لِلجَوَاسِيسِ تَخْرِيبُ الوَطَنِ, عَلَّقُوهُ ! لَعِبْتُ السّيَاطَ وَالعُصِيَّ الكَهْرَبَائِيَّةَ عَلَى جَسَدِي وَتَضَرَّجْتُ بِسَيْلِ دِمَاءٍ كَالأَنْهَارِ, أَفَقَدَ الوَعْيُ بَيْنَ الحِينِ وَالآخَرِ وَأَسْمَعَ بُكَاءها وَبَعْضُ كَلِمَاتِهَا: وَاللهِ لَا اِعْلَمْ أَيْنَ وَالِدِي ! اِنْتَهَى يَوْمِنَا مُتَجَاوِرِينَ بِمِحْجَرَيْنِ لِلجُلُوسِ فَقَطْ, عَلِمْتُ أَنَّهَا نِهَايَتُي وَسَيَنْتَهِي مَصِيري بِالإِعْدَامِ, وَلَكِن شدني وَشْغَلْنِي دُعَاءُ الفَتَاةِ البَرِيئَةِ, لِمَاذَا تَطْلُبُ المَوْتَ ? تَرَدَّدْتَ فِي الحَدِيثِ إِلَيْهَا, فَبَادَرَتْ بِسُؤَالِي: مَا هي تُهْمَتُكَ? أجَبْتُهَا: لَا اِعْلَمْ! ـ لَهْجَتُ بِخُشُوعٍ يَالله فَرجَ عَنْهُ. اِنْدَفَعْتُ قَائِلًا لَهَا: لماذا تدعين عَلَى نَفْسِكَ? ـ فَأَجَابَتْنِي بِسَيْلِ دُمُوعِهَا: هَذَا الضَّابِطُ يُرِيدُ هَدْر عَفَتَيَ. خَرِسَ لِسَانِي وَاِقْشَعَرَّ بُدُّنِي فَقُلْتَ لَهَا: مَا رَأْيُكِ نَدْعُو بِهَذَا القَوْلِ وَلَا نَتَكَلَّمُ بِشَيْءٍ أُخَرَ? ـ نَعَمْ, مُوَافَقَةٌ. رَدِّدِي مَعَي: أَمَّنَ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ. مَرَّ عَلَى دُعَائِنَا ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ ، جَاءَ زَائِرٌ يُمْلِأ رَأْسَهُ الشِّيب وَيَبْدُو عَلَيْهِ الصَّلَاحُ, وَقْفٌ بَيْنَنَّا وَهُوَ يَنْظُرُ فِي الأَوْرَاقِ لَمْ تُمْضِ دَقَائِقَ إِلَّا وَكُنَّا نَسْتَنْشِقُ رَحِيقَ الحُرِّيَّةُ.