بغض النظر عما آلت إليه أحداث العقد الماضي، من عنف وإطاحة أنظمة، وإعدامات وتنكيل وحروب أهلية، فإن هذا الزلزال العنيف الذي خلخل العالم العربي لم يحصل من فراغ، بل تهيأت له كل الأسباب لاهتزاز الأرض تحت أقدام أنظمة توهّمت أن الأمر استقر لها، وأن القوى المتربصة بها لا قدرة لها على تحريك الشارع.
هذه الغفلة عن سماع صوت الناس، أسقطت نظام زين العابدين بن علي في غضون 23 يوماً من التحرك، وكذلك النظام المصري القديم بعد 18 يوماً من التظاهرات، فيما في ليبيا واليمن كانت القصة أكثر دموية مما اعتقد صناع القرار فيهما… وكأن قادة تلك الدول تمثلوا بقول طرفة بن العبد “كالعيس في البيداء يقتلها الظما والماء فوق ظهورها محمولُ”.
في هذا الشأن، تحضرني قصة تروى عن رجل ثري كان يفوق أهل بلده جميعاً ثروة، ومع ذلك فهو شديد البخل، لدرجة أنه لا يأكل اللحم إلا كل يوم جمعة فيذهب إلى الجزار ويشتري منه رأس خروف، ولذلك لقبه أهل بلدته بـ”أبو الروس”، وكان أهل بيته مع تذمرهم من شحه هذا صابرين، وينتظرون الفرج بموته.
ذات يوم سافر إلى بلدة مجاورة لقضاء عمل تجاري، فصادفه عند مدخلها رجل وقور، جميل الهندام، حيَّاهُ وَلَزِمَهُ، كما هي عادة العرب في ذلك الوقت حين لقاء الغرباء الوافدين على بلدتهم؛ فوجد ذلك الشحيحُ عند هذا الرجل بعدما مكث ثلاثة أيام ما لم يكن يتوقعه، فخامةَ بيته، وطيبَ مائدته، وكثرةَ أصناف طعامه.
بعد ثلاثة أيام من الضيافة سأل “أبو الروس” مضيفه: إني في ضيافتك منذ ثلاثة أيام ولم أرك تؤدي أي عمل؛ فمن أين أتيت بثروتك، لتنفق بسخاء؟
قال صاحب البيت: “لقد دأبت على أن أتزوج مِن كل أرملة فقدت زوجها الثري، فأتمتع معها بالمال الذي ورثته منه، وفي هذه الأيام يُحكى أن تاجراً في البلدة المجاورة يلقبونه بأبي الروس، فاحش الثراء شديد البخل، انتظر أن يأتي الله بمنيته قريباً حتى يفرج عن أهله بموته، وإذا ما حييت فإني سأتزوج أرملته”.
وما كاد صاحب البيت ينهي كلامه حتى استأذن أبوالروس مُضيفه ليعود إلى أهله، وقبل أن يصل إلى بيته ذهب إلى السوق، واشترى الكثير من الزاد واللحم، والكساء، والفرش، وحملها معه أربعة من الحمّالين، فلما دخل على أهل بيته فزعوا، وقالوا: ما الذي دهاك؟
فقال لهم: “نبي نبيد المال قبل أن يبيدنا وقبل ما يجيه قضعان يأكله”.
ربما لو كان أدرك قادة تلك الدول التي هزها زلزال “الربيع العربي” فحوى هذه القصة لتغيرت أمور كثيرة في بلدانهم، ووفروا على شعوبهم كل هذا الخراب، وفعلوا ما فعلته قيادات رشيدة في دول أخرى، إذ كانت تتابع مشكلات شعوبها عن كثب وهيأت لها ما يمنع دخولها جحيم القلاقل فكانت سبّاقة إلى تفويت الفرصة على القوى التخريبية، وهو ما فعلته في حينه المملكة العربية السعودية.
فمع بدء موجة “الربيع العربي” اتجهت أنظار المتربصين بدول الخليج عموماً، والسعودية خصوصاً، إلى شعب المملكة وبدأت أبواق التآمر في المنطقة وأوروبا تحرض للخروج على الحكم، وقد دعت حينها إلى تظاهرات في يوم جمعة من شهر مارس عام 2011، غير أن أحداً لم يخرج الى التظاهر، وحينها كان الملك عبدالله بن عبدالعزيز قد عاد من رحلة علاج في الولايات المتحدة، وعلى الفور أصدر نحو 30 أمراً ملكياً كانت قد أعدت قبل سفره، وبلغ ما قدمته الحكومة إلى الشعب عبرها نحو تريليوني ريال، تضمنت إصلاحاً شاملاً في مختلف القطاعات، أكانت تعليمية، أو صحية، أو إسكانية وغيرها، إضافة إلى مساعدات مالية لمحدودي الدخل، وإسقاط القروض وإخراج الغارمين من السجون.
يومها وجه الملك كلمته التاريخية الى شعبه إذ قال فيها: “كم أنا فخور بكم، فالذاكرة الوطنية تحفظ بأنكم بعد الله صمام الأمان لوحدة هذا الوطن وأنكم صفعتم الباطل بالحق، والخيانة بالولاء وصلابة إرادتكم المؤمنة”.
بعد رحيل الملك عبدالله كانت نقطة التحول الكبيرة الثانية التي أحدثها الملك سلمان بن عبدالعزيز، بإطلاقه برنامج “السعودية 2030” الذي نشهد حالياً إنجاز بعض منه في تطور يشمل الصعد كافة،
إضافة إلى إصداره أوامر ملكية قضت بصرف نحو 100 مليار ريال على تحسين الخدمات، ولم تكن لدى الحكومة السعودية حجة لعدم إنفاقها على شعبها، لا في ما يسمى الأجيال القادمة، ولا المال السيادي.
هذا الفرق بين قادة استسلموا للبخل والتقتير على شعوبهم، وتسببوا بإطلاق يد الفساد، وبين الذين سمعوا همس الشعب قبل أن يصبح صراخاً يزعزع استقرار الدولة، لأن ثمة عبراً يتعلمها القادة من دروس التاريخ،
كما هي الحال مع الدولة الأموية التي أسقطها بخل الخليفة المعروف بمروان الحمار، وكذلك الدولة العباسية التي أسقطتها ثورة خراسان بعدما تمادى الملك في حبس المال عن الشعب وزاد الضرائب، وأغلق أبوابه في وجه أهل الحل والعقد.