لم أكن أعلم أن اسمه “محمود أحمد عطاالله شمروخ” حتى أخبرني هو بذلك. ففي عالم الأدب أعرفه ويعرفه عشاق أشعاره باسم محمود الحبكي. من نجع حمادي محافظة قنا في صعيد مصر. حدثني عن طفولته وعن أحلامه، عن مسيرته الكرويثة والأدبية، وأخيرًا عن مجموعته الشعرية الفائزة بجائزة، وهذه خلاصة حواراتنا معًا. قال:
وأنا في المرحله الابتدائية كنت ألعب الكرة الـ(شراب) في شوارع نجع حمادي، وفي المدرسة كنت كابتن الفريق المدرسي وأنا في الصف السادس. ولما كنت (أحبِكُ) الكرة بإتقان ومهارة وأتفنن جدًّا في حَبكِها، صاح من يدعى بـ الحاج نعيم: الله عليك يا حبكي! انتبه! ستصير مشهورًا!
ومن يومها صار هذا اسم الشهرة الخاص بي! (الحبكي). ولا أدري إن كانت نبوءته الخاصة بالشهرة قد تحققت!. وبالتوازي مع لعب الكرة كنت أكتب الزجل وأنا في الإعدادى، وحينما التحقت بالثانوى العام كان الشعر وكرة القدم بالنسبة لي جناحين أحلِّق بهما مسرورًا بحاضري متطلعًا بفرح نحو المستقبل. كنت أحلم بالنجومية في كرة القدم. لعبت لجميع أندية قنا، مركز شباب نجع حمادي، نادى الألومنيوم، نادى سكر نجع حمادي، نادى شبان مسلمين قنا، منتخب قنا، منتخب سنترال قنا، وحصلت علي كأس أحسن لاعب علي مستوى سنترالات الجمهورية. وبالتوازى مع هذا كنت أنشر أزجالي في صحف الجمهوريه، المساء، العمال. أرجع قليلا إلى الخلف: فبالنسبة للدراسه بعد إلتحاقي بالثانوى العام رسبت خمس مرات وحولت مسار ثانوى صناعي والتحقت بالجيش وبعد ذلك التحقت بوظيفتي بسنترال قنا، وصرت عضوًا في نادى أدب قصر ثقافة نجع حمادي. وكان يعقد لقاء أدبي أسبوعي كل يوم (إثنين) بوجود بعض الشعراء الكبار ومع ذلك لم تكن اللقاءات مجديه لأمثالي فآثرت الابتعاد وعدم التملق والخنوع ورفضت السير تحت (باطهم) وشرعت في الانطلاق والتحدي لتحقيق ذاتي من خارج قصر الثقافة. تسلحت بالقراءة فالتهمت جميع مجلدات بيرم التونسى، فؤاد حداد، صلاح جاهين، سيد حجاب، والأبنودى. وكنت أقرأ لجميع الشعراء الذين يكتبون بالعامية المصرية المحببة إلى قلبي فضلا عن شعراء (التفعيلة) والحداثيين. ولم تقتصر قراءتي على الشعر بل الرواية أيضًا وكافة فروع الأدب والثقافة. وجعل الطالب الذي رسب في الثانوي العام يكوِّنُ ثقافته فيما يحب، وبشغف تام. وبدأتُ مراسلة جميع الجرائد والمجلات التي تهتم بشعر العاميه ونشرت بها وحصلت علي بعض الجوائز في مسابقة أخبار الأدب، والمشروع المصرى الإيطالي، ومركز عماد قطرى. وكتبت لإذاعة جنوب الصعيد برنامجًا يدعى (تلغراف) كتبت تسعين حلقة، وقمت بتأليف التتر الخاص بالإذاعة، وتم إلقاء الضوء علي شعرى والإشادة به في كتاب (صمت الوقت) الذى ضم جميع شعراء قنا آنذاك. فقال النقاد عني: “نضج شعر العامية لدى الحبكي وأشتد عوده واكتسب مفرداتٍ وصورًا جديده أبكارًا لم يسبقه إليها أحدٌ أو يتأثر بأحد”. شاركت في بعض المؤتمرات والأمسيات في العديد من محافظات مصر. ونشرت ديوان (الهامش) الذي طبع لفوزه في مسابقة عماد قطرى. ولي بعض المجموعات الشعرية التي أتمنى أن تجد طريقها إلى النشر مثل: (الوقت معايا) و (لما أقعد وحدي). ما تزال كرة القدم تتقافز في دمي وإن كان صداها قد خفت مع مرور السنوات، لكن الشعر يأسرني فأدور في فلكه ولا أنفك أغني به وأترنم.
وقال عن شخصيته:
كذا محمود جوَّاى
مترصصين
متربَّصين
لابْدين
ما بينْ
قلبي وحشاى
متسلَّحين
متشكّلين
دمِّي اللي متسمِّي
بـ مداىْ
أَرفَع عصاىْ
طالعين معاىْ
نازلين معاىْ
لحظة ما يتعكَّر هواى
الكل محمود الجسور
ويثور يفور
يعلنها حرب علي اللي
بيحاول يجورْ
علي أرضي
أو يخدش قفاىْ
محمود شهيد أرضه
محمود شهيد عَرْضُه
محمود يموت علي مبدأه وفَرْضُه
محمود بيفرد جِتِتُه
ويعدّى محمود اللي جاى.
باختصار هو محمود الرجولة والشهامة وصاحب المبدأ الحر النظيف. ولا يحتاج إلى أحد من الناس، فلا يتزلف ولا يترجى ولا يريق ماء وجهه. حتى إن أراد أن يعبر قناة صعبة فما عليه إلا أن يفرد جسده قنطرة يعبر عليها هو ذاته دون أن يطلب مساعدة أو عونًا من أحد. هذا هو شاعرنا العصامي الجميل، وهذه ثطوف من أشعاره بالعامية المصرية:
سياسه قال وقَرَف
وطرَف بيخسر طرَف
والله يا أسمر
غنوتك بـ الكون
رِجلَك أبوسها
يا حافي أكبر شرف
إنت اللي شايف
الدنيا دى بروحك
وإنت اللي عايش الفقر
بس بـ تَرَف
**
رغم الفيروس
كان نفسي أجيب
لـ عيالي فانوس
لكن علشان دم مُرَتبي
إتفرَّق بين دفع الفواتير
وإيجار
ودروس
فـ بلاها فانوس
أَستحمِل نظرات أولادى
وأغنِّي نشيد ليه يا بلادى ؟!
وألعَن في تاريخَك يا ميلادى
وبُكايا عشان خاطرِك يا فلوس
فـ بلاها فانوس
أنا حـ أسكُت وأحلِف
مش راح أقول
أشْكالنا ما تعرفشي ال( هايبر )
ويعُوفها الـ ( مول)
إحنا اللي بنهتف يحيا الفول
فـ بقينا السوس
فـ بلاها فانوس
من دمعي بأغسِل أطباقي
بأدفع من عُمرى مفيش باقي
ليه كل ما أدوَّر مش لاقي
أنا حافي
وحاف
مش لاقي غموس
ف بلاها غموس
وبلاها فانوس
**
مصر (رفعت) (نقشبندي)
أكله حِرشه ويوستفندي
مصر عايقه في جلابيه
وأحلى لما تكون أفندي
مصر لما غلطنا يكبر
تبقي دى عندك وعندى
مصر ناعمه وقول يا (دودي)
وخشنه لما تقول (شمندي)
مصر حلوه بـ (عِرق سوسـ ) ها
وأحلى من طعم (البراندي)
**
حجمك ضئيل
ضِلَك بيلزق في الهدوم
سفسوفه مـ الإحساس
بتعكس قلب من برَّه القفص
مُضرِب من الفعل اللي بيخُض البياض
دايماً عينيك حتي فـ منامك تبتسم
والقلب مش بيدق لجل الإنزعاج
خوَّاف وبتلوِّن عينيك من فِطرِتك
من نظرتك
بتهز روحك للجماد
والريش ينبِّت تحت باطَك يفضحك
الريح يهاودك
من صباعك ترتبك البوصله
ناحية طلعتك
حتي في سُكاتك الحروف تستعطفك
هو أنت حافي لجل خدشك للطريق
ولا انت بتموت لما يد بتقطفك
الدنيا بتشد القميص
وإنت اللي تلقائي العيون
هي اللي تستر عورِتَك
بإيديك بتغرُف مـ السما
وبتقشُط الوش اللي مختوم بالرضا
دايماً شفايفك في الفراغ متكهربين
والطقس يفرش لك فصوله يخيَّرك
والدنيا بتخبَّط عليك
تفتح هواها يغيَّرك
ومن هذه النماذج ندرك حجم المعاناة التي يشعر بها الشاعر، إن لم يكن في حياته وحياة من حوله ففي حيوات الكثيرين ممن يفكر فيهم ويشاطرهم آمالهم البسيطة وأحلامهم التي تكاد لا تقوى على الطيران. هذا شاعر يغمس قلمه في عرق العرقانين وكدح الكادحين ومعاناة المعانين، وفي الأنين، وفي النظرة الشاردة التي تحاول تجاهل الواقع المرير، يغمس قلمه في الأرض الطيبة وفي الرمال العطشى وفي حب مصر التي يعشقها القلب في كل أحوالها. وهذا القلم المغموس نفسه هو من يعطيه الأمل الجميل وهو من يرسم على شفتيه بسمته الدائمة.