كلما مررت بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي جاء فيه : ” تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدا كتاب الله وسنتي ” أتوقف عنده طويلا ، وأتأمله كثيرا ، وأفكر فيه بعمق تفكيرا يتجاوز معناه الضيق الذي يقف عنده كثير من الشرّاح وكتّاب السيرة إلى معناه الأرحب والأوسع ، فالقصد من هذا الحديث ليس التمسك بكتاب الله وسنة رسوله في العبادات فقط ، وإنما يمتد القصد ليشمل أيضا المعاملات وكل شؤون حياتنا . – فلو نحن تمسكنا بكتاب الله وسنة رسوله في الاهتمام بتحصيل العلم لن نضل الطريق إلى الرفعة والتقدم والسؤدد . – ولو تمسكنا بهما في الأخذ بأسباب القوة والمنعة لن نضل الطريق إلى النصر. – كما لو تمسكنا بهما في المعاملات التجارية لن نضل الطريق إلى الغنى ومتانة الوضع الاقتصادي . وقس على هذا جوانب كثيرة في حياتنا … ولكن بما أننا نعاني من الجهل والضعف والفقر ، وجب علينا الوقفة مع النفس والمراجعة الشاملة والموضوعية لنهجنا ، كما وجب علينا أن نغير ما بأنفسنا حتى يغير الله ما بنا. وتجدر الإشارة إلى أن الحديث عن كتاب الله وما جاء به من تشريعات وتوجيهات يقود دائما إلى الحديث عن سنة رسول الله ، والعكس صحيح فالحديث عن سنة رسول الله يقود إلى الحديث عن كتاب الله ، ذلك لأن الرسول لم ينطق عن هوى ، ففي كل أقواله وأفعاله ومواقفه كان يتلقى التوجيه من الله ، وفي كثير من المواقف كان يرجىء اتخاذ القرارات والبت في فيها حتى يأتيه الوحي ، فحياته الحافلة بالإنجازات الحضارية كانت تمثيلاً حياً وتفسيراً لما جاء في القرآن الكريم . أقصد أننا في هذه السلسلة من المقالات التي نلقي بها الضوء على جوانب من حياة النبي في رمضان لن نذهب بعيدا عما جاء في كتاب الله العزيز . وقد وقع اختياري على هذا العنوان ” الرسول صلى الله عليه وسلم في رمضان ” لأننا سنقتصر فيما نقدمه في هذه الحلقات على جوانب من حياته في رمضان بمناسبة هذا الشهر الفضيل . سوف أسعى إلى جمعها وتنقيحها وربطها ببعضها ، سائلا الله أن يوفقني في هذا العمل ، ويعصمني في سبيله من الزلل ، وأن يفتح لي مغاليق العلم ويجمّلني بالصبر والحلم . كما أود الإشارة إلى أنني سألجأ في أحيان كثيرة إلى عقد مقارنات بين ما كان يقره ويقرره الرسول صلى الله عليه وسلم ، وما نقره ونقرره نحن في عصرنا هذا إزاء المواقف المتشابهة ، ذلك لنقيم أنفسنا ونعرف درجة الصواب التي نحن عليها ، وأين نحن من الإسلام , فسنة الرسول هي المعيار النموذجي الذي يجب أن تقيس به الأمة مواقفها وأوضاعها ، دون إغفال مقتضيات العصر ومعطياته ، والفوارق بين زمانه صلى الله عليه وسلم وزماننا . وعليّ أن أذكّر بأن الهدف من تقديم هذه الحلقات ليس مجرد تسويد صفحات من كتاب ما أو صحيفة ما بقصد التواجد إعلاميا في هذا الشهر الفضيل الذي يتبارى فيه الكثير من أصحاب الأقلام وتتبارى فيه الفضائيات لجذب المتلقين ، بل الهدف الذي أسعى إليه وأعكف عليه أن يجعل كل واحد منا : المعلم في مدرسته أو جامعته ، والصانع في مصنعه ، والعالم في مختبره أو معمله ، والتاجر في متجره ، والجندي في رباطه ، والمزارع في حقله ، كل حياته موافقة لما كانت عليه حياة الرسول صلى الله عليه وسلم فإننا إن فعلنا ذلك مع الفهم التام بأن غيره يعد خروجا عن الدور المنوط بنا في الحياة نستحق أن نكون خير أمة أخرجت للناس . كانت حياة الرسول صلى الله عليه وسلم من بدايتها حتى نهايتها خيرا وبركة ، حفلت بالأمجاد والمكرُمات ، حتى قبل أن يأتيه الوحي من الله تعالى، ومع ما كان المجتمع عليه آنذاك – من حسبان الجهل – كميدان للفوضى والعبث، استطاع صلى الله عليه وسلم أن يحافظ على كرمه ووفائه، ومروءته وعزة نفسه ، والتمسك بمبادئه في رفض الضيم والجور، ونصرة المظلوم وإجارة المستجير، ولم يقل أكون مع قومي إن هم أصابوا أصبت وإن أخطأوا أخطات ، بل كان إذا اصابوا أيدهم وباركهم وإن أخطأوا نصحهم وقوّمهم . والأمة الإسلامية بأحادها وجمعها مطالبة اليوم خصوصا ونحن في مطلع شهر رمضان أن تنفض عن نفسها ما علاها من غبار الكسل وخمول والعجز وتتوب إلى الله، وتستغفره ليس فقط لذنوبها ولكن أيضا، لجهلها وضعفها وهوانها وتأخرها، تستغفره لوضعها الذي لا يليق بأمة المفروض أنها خير أمة . التوبة ليست الإقلاع عن المعاصي فقط، ولكن أيضا التخلص من كل ما لم يجعلها في طليعة الأمم، لقد آن الآوان أن نفهم كل حديث من أحاديث الرسول بمعناه الواسع الذي يشمل الدين والدنيا ، فهيا نتهيأ لمرحلة جديدة ونستعد من بداية هذا الشهر للاستفادة منه أما كيف نستعد ؟ ، فلا أجد أفضل من وصايا الرسول لأمته في نهاية شهر شعبان بمناسبة استقبال الشهر الفضيل حيث نقتبس بعضا منها : ” أيها الناس انه قد أقبل إليكم شهر الله بالبركة والرحمة والمغفرة ، شهر هو عند الله أفضل الشهور وأيامه أفضل الأيام ولياليه أفضل الليالي وساعاته أفضل الساعات هو شهر دعيتم فيه إلى ضيافة الله وجعلتم فيه من أهل كرامة الله، أنفاسكم فيه تسبيح، ونومكم فيه عبادة، وعملكم فيه مقبول، ودعاؤكم فيه مستجاب، فاسألوا الله ربكم بنيات صادقة وقلوب طاهرة أن يوفقكم لصيامه وتلاوة كتابه ، فان الشقي كل الشقي من حرم غفران الله في هذا الشهر العظيم، واذكروا بجوعكم وعطشكم فيه جوع يوم القيامة وعطشه، وتصدقوا على فقرائكم ومساكينكم، ووقروا كباركم وارحموا صغاركم وصِلُوا أرحامكم واحفظوا ألسنتكم وغضّوا عما لا يحل النظر إليه أبصاركم وعما لا يحل الاستماع إليه أسماعكم ، وتحننوا على أيتام الناس يتحنن على أيتامكم، وتوبوا إلى الله من ذنوبكم وارفعوا إليه أيديكم بالدعاء، في أوقات صلاتكم فإنها أفضل الساعات ، ينظر الله فيها إلى عباده بعين الرحمة، يجيبهم إذا ناجوه ويلبيهم إذا نادوه ويعطيهم إذا سألوه ويستجيب لهم إذا دعوه. أيها الناس: إن أنفسكم مرهونة بأعمالكم ففكوها باستغفاركم، وظهوركم ثقيلة من أوزاركم ، فخففوا عنها بطول سجودكم، واعلموا أن الله أقسم بعزته أن لا يعذِّب المصلين والساجدين وأن لا يروعهم بالنار يوم يقوم الناس لرب العالمين. ثم قال : أيها الناس: إن أبواب الجنان في هذا الشهر مفتحة فاسألوا ربكم أن لا يغلقها عليكم، وأبواب النيران مغلقة فاسألوا الله أن لا يفتحها عليكم، والشياطين مغلولة، فاسألوا ربكم أن لا يسلطها عليكم ” .أو كما قال صلى الله عليه وسلم