الخامسة عصرا ، الرطوبة خانقة ، الجو يخلو من نسمة هواء ولو عابرة ،
خرجت من المنزل ، سرت في شوارع القرية ، سلمني شارع إلى شارع إلى أن قادتني قدماي إلى الطريق الرئيسي ،
عبرته للجانب الآخر حيث الحقول الغناء التي تمتد امتداد البصر فتبدو للعيان كبساط سندسي سرمدي لا ينتهي كشقاء فلاحي الأرض الذين يكدون فيها مواصلين الليل بالنهار ،
سلكت الحد الفاصل بين غيط عمي أبي وائل فتحي وغيط رجب أبي صالح ، جسر رفيع كدت أفقد توازني واسقط لو اعتيادي على السير فيه ،
نباتات الحلفاء تغطي الجسر ترتفع قرابة النصف متر ، تركت أثرا على ساقي خلال سيري . قصدت مكاني المعتاد حيث شجرة التوت في مربط عم سعد الذي كان يعمل خفيرا نظاميا والآن بعد التقاعد صار جل وقته يقضيه في قراريطه بجوار مقابر القرية المجاورة حيث تطال مقابرهم قريتنا من جهة الأرض الزراعية ،
في مربطه بقرة وحيدة عرفت من خلال كلامي معه أنه حصل عليها من خلال جمعية الأورمان لأن لديه ابن قعيد من زوجته الثانية التي تزوجها من إحدى العزب بعد وفاة زوجته الأولى ، جلست بجواره تجاذبنا أطراف الحديث ،
الذي لا يخلو من نكاته المسفة والتي لا تناسب سنه لكن تناسب روحه المرحة ، خفة روح يتغلب بها على ثقل الحياة وهمها المطبق ، أخبرني أنه حصل على شرخة الأرض تلك من مالكها الأصلي والذي كان يعمل لديه أجيرا ،
حيث عرض عليه شرائها ويسر له الدفع وأكمل أن الأرض ما عادت تدر كسابق عهدها حتى الحكومة رفعت يدها شيئا فشيئا عن الفلاح وتركته نهبا للتجار والسوق وموردي الأسمدة والتقاوي وفسدة الجمعية الزراعية ،
هكذا صار الفلاح طحين رحى الإهمال والاستغلال ، والأعجب أنه قال ليت أيام الملكية ترجع فإن كانت شقاءا لكنها كانت خيرا ، لم أتعجب كثيرا مما تمنى فالرجل شهد أياما كانت الأرض تدر بسخاء والدولة تهتم وترعى ،
والآن يعاصر أياما فيها الأرض تبخل بعطائها بل واحيانا تضن به ولا تخرجه . طال حديثنا حتى غابت الشمس متوارية هناك وراء النخيل وغابت معها بسمة كانت ترتسم على فمي كلما جالست عم سعد .