بعد كل مرة تفحصه جيدًا وتمسح بيدها عليه داخلًا وخارجًا، وتدُسّ إصبعها داخل نتوءاته لتتأكد من نظافته، ثم تنظر إليّ وتهز رأسها بإعجاب لأني ( طلعت نضيفة ولهلوبة).
تضعه بحرص شديد على رفّ الشيفونيرة وترُصّ (كوباياته) حوله في شكل دائري يعطيك مهابة الملك وحوله جنوده، ثم ترمقه بإعجاب قبل ان تغلق الدرفة وهي تتمتم: ( أهي الليلة عدت على خير الحمد لله).
أنا وأخوتي أيضًا كنا نحبه، ونحب أن نشرب منه (كوباية الشربات الساقعة) وتحمرّ ألسنتنا ونضحك ونطلب المزيد فتقول لنا: (لما الضيوف يشربوا الأول).
لم يكن ينزل من على رفّ العزة إلا في مناسبات شديدة الخصوصية؛
مثلًا: يوم أن صرف أبي مكافأة المعاش، ويوم خروجه من المستشفى بعد عملية ظهره، ويوم أن دخلت الكهرباء دارنا ولم يكتفِ ساعتها الموظف الذي عمل (المقايسة) بكوب الشربات، وأقسم على أبي أن (يحليله بقه) وتعجبت وقتها لأن الشربات كان طعمه (حلو)!!
وفي كل مرة ينجح أحدنا بتفوق، ويوم خطوبة أختي ومن بعدها أخي.
أما يوم خطوبتي فلم نره..ولم نشرب الشربات.
– ” ايه ده؟ شربات ايه اللي هتعمليه يا حاجة؟ احنا هنجيب حاجة ساقعة وشيكولاتة، الشربات ده حاجات فلاحي مش هتنفع معانا”.
مرّ كثير من الوقت لم نر ( شفشق الشربات) الذي كنا نتسابق لحمله وهو يبرق في عين الشمس، ولم نعد نشرب الشربات أنا وأخوتي.
ولكن بقيت له حلاوةٌ تطلّ من خلف مرارة الأيام، حين يسألني ابني بعد رؤية مشهد خطوبة في فيلم عربي قديم: ” هو الشربات ده طعمه ايه يا ماما؟” فأجيبه: ” طعم الشربات كان حلو، حلو أوي من إيدين جدتك الله يرحمها”.
ثم أبتسم والدموع تتراقص في عيني وأنا أذكرها، وهي تُشمّر عن ساعديها بحماس، وتعقد ضفيرتيها من الخلف، وتحكم التربيعة المورّدة على رأسها( عشان مفيش شعراية تقع في الشربات والناس يعيبوا علينا)
ثم تأخذ بالكوز الصغير من البستلة بعد ان تزيح قطعة الثلج به في جانب، وتصب في الشفشق وهي تغني: ” من تحت شباكنا الحليوة فات….”