بقلم المهندس/ طارق بدراوى
حضارة مرمدة بني سلامة حضارة من العصر الحجرى الحديث في مصر عاصر طورها الأخير حضارة البدارى التي بدأت عام 4800 ق.م تقريبا وإستمرت حتي عام 4300 ق.م تقريبا وهذه الحضارة ليست معروفة للكثيرين وقد تواجدت في أواخر الألف السادسة قبل الميلاد في موقع قرية تسمي مرمدة بني سلامة ولذلك سميت بإسمها في مصر قبل عصر الأسرات ويقدر أن تلك الحضارة تطورت في الفترة من عام 5000 ق.م تقريبا وحتى عام 4500 ق.م تقريبا وقد قسم العلماء عصر ماقبل الأسرات في مصر إلى ثلاثة أقسام هي العصر الحجرى القديم والعصر الحجرى الحديث ثم عصر بداية المعادن أو عصر ما قبل الأسرات أما العصر الحجرى القديم فيعد أطول عصور ما قبل بداية التاريخ لأنه يشمل أغلب العصر المعروف عند الجيولوجيين بإسم حقبة أو عصر البلايستوسين والذى تعود بدايته إلي حوالي مليون ونصف المليون سنة قبل الميلاد وإستمر حتي حوالي 10 آلاف سنة قبل الميلاد ليبدأ عصر الهاليوسين وهو العصر الذى مايزال مستمرا حتي الآن وكانت حضارات الإنسان في عصر البلايستوسين بدائية ولم تختلف فى مصر عن غيرها من جهات العالم القديم كما كان النيل مختلفاً فى جريانه وإمتداده عنه فى الوقت الحاضر فكان ينبع فى بلاد النوبة وشمال السودان ولا تمتد منابعه إلى هضبة الحبشة ولا فى الهضبة الإستوائية وإنما كان نيل مصر والسودان كما يمكن أن نسميه يعتمد على الأمطار المحلية فى حوضه الشمالي خلال ما يعرف بالعصر المطير كذلك لم تكن صحارى مصر والسودان كما هى عليه الآن من جفاف وإنما كانت تسقط بها أمطار متوسطة إكتست بسببها أرض الصحراء بالأعشاب والأشجار المتفرقة وعاش الحيوان وسعى الإنسان متنقلا فى تلك البيئة المكشوفة وقد عثر على الآلات الحجرية التي تعود إلي هذا العصر فى جهات متفرقة من صحارى مصر كما وجدت بعض تلك الآلات مطمورة فى مدرجات نهر النيل ورواسبه الجانبية والشئ الطريف أن مصر بدأت أول الأمر متشابهة تمام الشبه مع غيرها من أقطار العالم القديم ولكن حضاراتها الحجرية أخذت بالتدريج تتخذ طابعا محليا خاصا ميزها عن غيرها من الأقاليم والظاهر أن الجفاف أخذ يحل بالتدريج فقل النبات فى الصحراء وهجرها الحيوان والإنسان إلى وادى مجرى النيل أو إلى قيعان بعض الواحات وأدى ذلك إلى تطور الحضارة فى مصر تطورا محليا أعطاها فى النهاية طابعها المصرى الخاص ثم أخذ ذلك الطابع فى التطور والوضوح حتى إذا ما جاء العصر الحجرى الحديث كانت حضارة مصر والسودان قد إختلفت تمام الإختلاف عن حضارات غيرها من بلدان العالم القديم بما فى ذلك فلسطين والشرق الأدنى رغم ما بينها وبين هذا الشرق من صلات القربى فى المكان والسكان وبدأ العصر الحجرى الحديث فى مصر فى أواخر الألف السادسة قبل الميلاد وببدايته كان الإنسان قد تعلم الزراعة وقام بزراعة الحبوب الغذائية التي يقتات عليها ولا سيما القمح والشعير وتعلم ايضا إستئناس الحيوان ولاسيما المواشي بأنواعها والأغنام والخنازير كما تعلم صناعة الفخار وصقل الآلات الحجرية وأتقن صناعتها وبذلك كله تقدمت الحياة والمدنية وخطت نحو الإستقرار والإرتباط بالأرض والإقليم المحلى أول الأمر ثم بالوطن الكبير بعد ذلك وقد عثر على آثار الإنسان من هذا العهد فى جهات مختلفة من مصر قرب قرية مرمدة بنى سلامة الحالية حيث عثر على قرية قديمة يقال إنها أقدم قرية عرفها التاريخ أو ما قبل التاريخ وتقع هذه القرية علي بعد حوالي 51 كيلو متر شمال غرب القاهرة عاصمة مصرعلي الحافة الغربية للدلتا بالقرب من قرية الخطاطبة وتتبع إداريا مركز إمبابة التابع لمحافظة الجيزة وتشير الحفائر التي اُجريت في هذا الموقع أنه كان يضم قرية كبيرة الحجم نسبيا بالنسبة إلي مواقع هذا العصر وتدل المخلفات الأثرية التي عثر عليها في هذه القرية أنها تندرج تحت حضارة العصر الحجري الحديث حيث كانت المساكن عبارة عن أكواخ مغطاة بطبقة من الطين او الجبس ودعمت الأرضيات بمواد ردم خشنة كما عثر في بقايا هذه المنازل علي مواقد وبقايا عظمية وقد إكتشف هذا الموقع الأثرى القس الألماني هرمان يونكر الذي حفر حوالي 6400 متر مربع في بعثته للتنقيب في غرب الدلتا خلال عام 1928م والتي مولها ألبرت روتبارت من نيويورك لحساب أكاديمية العاصمة النمساوية ڤيينا .
وتخطيط قرية مرمدة بني سلامة عبارة عن صفين شبة مستقيمين يفصل بينهما طريق ضيق وذلك هو أقدم تخطيط عرف للقرية المصرية حتي الآن كما أنه من ناحية أخري يعد دليلا علي نشأة نوع من التنظيم الإجتماعي ووجود سلطة في القرية حيث لم يكن الأفراد أحرارا يقيمون أكواخهم حيث شاءوا وإنما كان هناك نظام وقانون عام عليهم أن يلتزموا به وتلك مرتبة لم تبلغها كثير من الجماعات إلا فى عصور متأخرة بل لم تبلغها بعض الجماعات حتى الآن كما كان أهالي مرمدة بني سلامة يقيمون مجتمعاتهم بالقرب من حواف وشطآن المستنقعات وتحت حماية النباتات الكثيفة التي كانت تعمل كـمصدات للهواء كما عرف سكان مرمدة بنى سلامة نوعين من المساكن الأول كلاهما بيضاوى ولكنهما يختلفان فى مادة وأسلوب البناء فالنوع الأول كان يبنى من كتل من الطين ويقع أساسه تحت مستوى سطح الأرض ويستخدم أساسا للمبيت وخاصة في ليالي الشتاء الباردة وكانت تلك المساكن تبنى في حفرة متسعة بحيث يكون جزء من المسكن تحت سطح الأرض لحمايته ويتراوح مساحتها بين 1 متر × 1.5 متر وبين 2 × 3.20 متر مما يحتمل معه أن الصغرى ربما كانت مساكن فردية والكبرى كانت مساكن جماعية أما الثانى فكان يبنى من البوص وعلى مستوى سطح الأرض وتدل عليه فجوات ضيقة في الأرض وجدت في بعضها أجزاء من البوص وتكون كل مجموعة منها شكلا شبه بيضاوي مما أدى إلى الإعتقاد أنها كانت فجوات لأوتاد من البوص تكون كل مجموعة منها كوخا أو خصا ليحتمى فيه صاحبه من الشمس والريح وليبيت فيه في شهور الصيف الحارة وفي كل من النوعين كان يوجد إناء واسع الفم مثبت في الأرض حيث كان يستخدم لتجميع مياه الأمطار التي تتسلل خلال السقف المصنوع من القش كما أوضحت الإكتشافات الأثرية التى تمت في هذه القرية أن سكانها عرفوا الزراعة وقاموا بتخزين الحبوب في صوامع من الخوص والقش كانت تتكون من سلال ضخمة أدخلت فى حفرة مبطنة بالطمى وجرار ضخمة يبلغ إرتفاعها مترا واحدا وقد غارت فى التربة وكان كل بيت من البيوت يمتلك مخزن غلاله الخاص به وكانت توجد دائما على مقربة من الصوامع أربع منخفضات يبلغ عرضها أربعة أمتار وهى قليلة العمق وقاعها مبطن بالحصير وقد فسرت على أنها أجران لدرس الحبوب كما أنهم كانوا يطحنون الغلال بإستخدام الرحى والتي مازالت تستخدم حتي اليوم في الكثير من القرى كما تدل الحفائر الأثرية أيضا علي أن سكان مرمدة بني سلامة عرفوا أيضا بعض الأدوات البدائية التي صنعوها من الظران أو الحجر الصوان وهو أول حجر إستعمل في مصر وفي باقي أمم العالم قبل معرفة النحاس وقد صنع إنسان العصرالحجري أسلحته وأدواته من هذا الحجر حتى بعد كشف النحاس ولكن بكميات قليلة وقد إستمر إستعماله بعد ذلك في عمل أدوات الزينة ويشتمل الظران أو الحجر الصوان على نوع متماسك جدا من السليكا وهو رمادي قاتم أو أسود اللون وينكسر على شكل شظايا حادة وهو النوع الذى صنع أهل مرمدة بني سلامة منه أدواتهم البدائية والتي كان منها المناجل التي إستخدموها لكي يقطعوا بها أعواد القمح كما كانت لديهم أيضا سكاكين من الظران وفؤوس للقتال وإستعملوا أيضا السهام ودبابيس القتال حيث أنهم توصلوا إلى رؤوس السهام المثلثة الشكل كما عرف أهل مرمدة بني سلامة أيضا صناعة الفخار الذى أضفوا عليه طابعا جماليا عن طريق زخرفة سطوحه بعناصر زخرفية بسيطة وصنع أيضا إنسان مرمدة بني سلامة أوانيه الفخارية باليد وكانت غير مصقولة وغير مزينة ومعظمها كان من فخار أسود خشن بسيط في أشكاله يتناسب مع مطالب الحياة ويتميز بوجود بروزات بها لحملها وأحيانا ثقوب في جوانبها لتعليقها منها ومن المظاهر الجديدة في هذه الحضارة العثور علي تماثيل طينية صغيرة كما عثر علي بعض أدوات الزينة مما يدل علي إهتمامهم بالكماليات وإن كانت قليلة في عددها وهي تتكون من عقود مصنوعة من العظم والصدف كما إستعملت النساء الكحل المصنوع من التونية الخضراء ويرى كثير من المؤرخين أن سكان مرمدة بني سلامة كانوا يرعون الماشية و يطحنون الغلال ويستدل من آثار مرمدة بنى سلامة ايضا على أن أهلها كانوا يرعون ويربون الماشية والخنازير والأغنام ويصطادون فى الماء والمستنقعات كما أنهم عرفوا النسيج حيث نسجوا ملابسهم من الكتان وتزينوا بالحلى على هيئة أساور من العاج وخواتم وعقود من الخرز وعن دفن الموتى فلقد دفن أهل مرمدة بني سلامة موتاهم بين منازل الأحياء أو في داخلها وليس فى جبانة خاصة كما هو الحال فى بقية المراكز الحضارية الأخرى فى مصر وربما كان ذلك لإعتقادهم بأن دفنهم بين المساكن يغنيهم عن تقديم القرابين ويهيئ لأرواحهم أن تشارك الأحياء فيما يأكلون ويشربون وكانوا يدفنون الموتي علي الجانب الأيمن ووجوههم متجهة نحو الشرق كأنما تستقبل الشمس المشرقة أو تواجه النيل والماء والأرض الطيبة مصدر الحياة والخيرات ويضعون بجانب الموتي بعض الحبوب وذلك بالقرب من أفواههم حيث كان أهلها على شئ من التقدم الروحى ولهم معتقداتهم التى تقوم على الإيمان بالبعث بعد الموت .