بقايا ماضي _ قصة قصيرة – جيهان حكيم
فستان أبيض بلون الثلج ، مطرز بحبات اللؤلؤ العتيق أكمامه مثقوبة بفصوص الخرز الثمين ، يجره ذيل طويل حريري يتناثر عليه زمرد خفيف ، أحمله بحذر وأضمه برفق وقد أعجبني أختلافه الذى سأختال به أمام الناس وسيدهش الحضور وسيحسدوني عليه
متوترة ، مشدودة ، أحاول ضبط نفسى وأنفعالاتي التي طالت الجميع، حتى مصففه الشعر
كنت أنتقدها وهى تضع اللمسات الأخيرة من تدريج خصلات خفيفة فوق جبينى بينما ترد هي بضيق
( هذا ضرورى لأن جبينك عريض )
وقتها تسلل إلي أذني صوت زغاريد عالية يصاحبها صوت أختي
_ العريس وصل
شعرت بقلبي يقفز من مكانه فرحاً حين تأملتني عيناه وهو يقترب منى ويطوق يدى بذراعه
=====
ذات صباح وبينما كنت أستلم فاتورة الكهرباء التقيت جارتي عند الباب وهى تلقى السلام وسرعان ما تطرق بنا الحديث عن صعوبة الحياة وغلاء المعيشة
وفجأة فتحت ثغرها عن أبتسامة صغيرة وأظهرت إعجابها بذوقى في أختيارالملابس وطلبت عنوان المحل لزيارته وأثناء ذلك وجهت لي دعوة لأشرب الشاي معها , وقبل أن أجيب أحتضنتني بلطافة قائلة :
” سأنتظرك “
لم أجد ما أقوله سوى
” بالتأكيد “
ولأنها كانت تجيد سرد الحكايات للتسلية , جمعتنا الرغبة في تبادل الحوار.. أى حوار , بعدها صارت بيننا مشاعر ودية وبدأنا نتجاذب أطراف الحديث وأصبحت أسمع لها وأعيش تفاصيل حكاويها عن مالكة العقار التى تجولت مع والداها الدبلومسي دول أوربية مختلفة وقد توفي عنها قبل شهر ولابد من تقديم العزاء لها
ترددت قليلاً فأنا لا أعرفها
لكنها أضافت ﻗﺎﺋﻠﺔ:
” لابد أنك تسمعين عنها فهي شابّة في غاية الجمال والجاذبية وشخصية كثيرة الأحسان , وهي وحيدة وحزينة جداً الآن “
وهنا زاد أندهاشي وتعجبي !! فقلت :
” ورغم ذلك لم تتزوج “
” رفضت كل من تقدم لخطبتها “
” لماذا “
” لا أعرف “
أخذت نظراتي متلصّصةً تطوف القصرالمصمم على الطراز الأنجليزى المطعم بالفن الفرنسي مبهورة بروعة الديكور وفخامة الأثاث والجمال النادر للزخارف التي تحتل جزء كبير من الحوائط البيضاء
كلّ شيءٍ أنيقٌ، ومنتقىً بعناية ، حتي اللوحات الفنية تم وضع كل قطعة في مكانها المناسب والنوافذ المفتوحة تطل على حديقة فيروزية تعكس بهجتها على كل الألوان وكأنك في ربيع لا ينتهي. وتلك الأزهار الجورية التي تتعانق مع شجر الياسمين والفل في لوحة ربانية مخضمة بعطرٌ لافندر يأخذك للسماء في جَولة بين نجومها وشهبها
قلت ساخرةً من تساؤلي المكتوم
( لابد أنها تنام على فراش من الحرير)
ثم تمتمت بحسرة
( زوايه واحدة هنا بالبيت الباهت الذي نعيش فيه )
أصابتنى قشعريرةٌ كمن صب عليه دلو ثلج حين رأيتها وغلبني الخوف في ذات اللحظة
( إنها هي !! لم يتغير فيها شيء , أعرفها ولكنها لا تعرفني ) قلت في سري
فى تلك اللحظة أعادتني إلى صوابي لكزة خفيفة من جارتى التي كانت تواسيها كي لا تنتبه إلى ذهولي ! بينما أستقبلتنا هي بلمسة حزن خفيفة علت وجهها وهي تشكرنا
=====
منذا ذلك اليوم الذي عادت فيه وأنا غارقةٌ في دوّامةٍ معتمة يتلاطمُ فيها صخبُ ماضي قديم وثقيل التف كطوق حول رقبتي حتي نبتت سطوة الشك بداخلي وظلت تنمو وتتمدد وتتجدد وتغرز أظافرها في قلبي وأنا أتذكر كلام جارتى لي محذرة :
( حين يتجاهل الرجل الماضي ، لايعني ذلك إلغاؤه )
تكومت فوق المقعد أنظر إليه وهو يتناول الشاي ويستمع بأنتباه لصوت أم كلثوم الذي كان ينبعث من الجهاز ويرن كأنغام كمان على أوتار قلبه بينما يتمايل هو كعاشق مرة ينشد حنينه ومرة ينشد فراقه
( كنت باشتاق لك وأنا وأنتَ هنا .. بيني و بينك خطوتين شوف بقينا أزاي أنا فين .. ياحبيبى وأنتَ فين )
وبالأمس كان يترنم بلحن فكرونى
أعلم أنه رومانسيّ بطبعه , لكن حماسه زادني غلياناً فقلت :
” ماهذا.. هذا غير معقول طول الوقت تسمع ام كلثوم ؟ “
” أكيد , كلّ ما تصدح به حنجرتها رائعٌ وجميل وأنا أستمتع به حتى النخاع “
قلت مغتاظًه :
” بالعكس صوتها يثير أعصابي وأغانيها كئيبة “
“ ماهذا الكلام التافه “
” أظنك تفهم!. “
نظر لي نظرة ثابتة غريبة لم أعهدها أبداً
فقلت :
” لا تنظر إلي هكذا “
وبعد دقيقة من الصمت سألته :
” ألا تزال تحبها.“
” من تقصدين ..؟ “
قلت ونيران الغيرة تلتهم قلبي :
” حبيبتك القديمة “
ردّ ببرود مستفزّ :
” ستظل هي دون سواها.. حبي الأول “
قلت بحرقة :
” ماذا تقول ؟ أما زلت تراها حبك الأول ؟!”
قال وكأنه يفجّر قنبلةً في وجهي :
” والأخير “.
=====
وأنا أهم كعادتي بغلق النوافذ قبل أن يزحف الليل رأ يته يقف معها عند باب العقار ظللت أتابعهما بنظراتي المعلقة
فيما أخذتْ عشرات الأسئلة تنهارعلي تطلب الجواب
هل مايحدث حقيقي؟
ما هذا اليوم الأسود الذي أضيع فيه!
وماذا لو أنكشفت كذبتي
ماذا سأقول له ؟ وأيُّ مصيرٍ ينتظرني ؟
كيف أتصرف أنا الأن ..؟!!.. ولماذا .. وكيف.. ولما ..عادت؟!
وهل .. وهل؟
أيُ حظ أحمق ألقى بها في طريقي
لم أكن أتخيل ولا واحد في المليون أنه، سيلتقي بها مجدداً
لقد سافرت منذ أفترقا بعد تخرجها لأستكمال دراستها في أمريكا ولم أعد أسمع عنها شيئاً وهذا ما جعلنى أتصور أنها هاجرت بلا عودة
=====
دون أستئذانٍ من حاضرى دار شريط الأحداث في رأسي المتعب وتلاحقت الصور أمامي ، وكأنها حدثت بالأمس
كان كابوساً ما حدث ذلك اليوم في الجامعة حين علمت بمحض الصدفة أنّ ما بين قلبيهما حب حقيقي، وتعاهدا على الزواج
وحينها أقمت حرب شعثاء أسلحتي فيها كانت حقداً وحسداً وغيرة وأعلنتها مواجهةً مفتوحةً من أجل الرجل الذي تعلُقت به ، وحلمٌت أن أتزوجه يوماً , وأنا وحدي من يحق لها أن تستولي على قلبه وعليه لم أتردد أن أحطّم أي شئ يقف أمامي فوق رأسها
هاهى ..
طلقات حارقة تخترق روحي كلما وقعت عيني علي ذلك البرواز الخشبي المعلّق في صدر الصالة. الذي يضم بين جنباته صورة جماعية لزملاء الدراسة الجامعيّة وتبدوهي بينهم ، وكأنها ظل لروحه تناديه من داخل البرواز وتأسره، بأصفادٍ من حنين
هذه الصورة التى تكدّر حياتي كم أردت أن أنتزعها بحقد وألقيها أرضاً , تمنيتُ لو أمزّقها وأحرقها وأمحو ملامحها من الوجود فهي كعتبة على حافتها كُتبت عثرتيّ
=====
يرن هاتفه فيضطرب باحثاً عنه
” الوو نعم سأكون على الموعد “
أخذ حماما ، أنتقى من دولابه ، بدلة زرقاء ، وربطة عنق بلون أخف درجتين ،
تمنطق بحزام من جلد ، وضع ساعة أنيقة على رسغه , أنتعل حذاءًه اللامع
ثم نظرإلى نفسه في المرآة مزهو
حينها جن جنوني, وطار عقلي من رأسي فسألته “
” حتماً بينكم موعد “
” لابد أن نلتقي “
ولما كنت قد وضعت نهايةً لأحلامه في أن يلتقيها يوماً قلت بثقة :
” انسي الغائب لم يعد له مكان “
أجاب بأبتسامة هادئة :
” تغيب ويبقى عطرها “
أتسعت عيناي رعباً وقلت :
” أذاً قل للزمان أرجع يا أستاذ.. “
قال وما زالت أبتسامته ذاتها :
” بالعكس أنا.. علي أملٌ اللقاء القريب “
رفعت رأسي بغضب وقلت :
“ أمراهَقةٌ جديدة هي ؟ ما الذي جدّ وما هذا ..!! “
” أنتهينا “
قالها وهو يغادرالحجرة بينما بقي صفق الباب العنيف يتردد في رأسي
=====
أخبرتُك الحقيقة مائة مرة ؛ لكنك لا تريد أن تُصدِّقني سأُعيدها عليك للمرّة الأخيرة , صديقك كان مغرم بها وحين فشلت محاولاته في أن يحظي بها ، أقسم أن لا يهنأ له بال حتى يفرق بينكما
“ أيُّ هراءٍ هذا!. ”
” لقد سمعت كل شيء بنفسي ”
” عليكِ أن تقسمي على ذلك “
” أقسم , لقد سمعته يتحدث بهذا الشأن مع أبنة أخيه ,أنا اذكر التفاصيل جيداً “
ما بين متعجب ومرتاب قال :
” اذا أخبريني ماذا حدث !! “
قلتُ بصوتٍ متردّد :
كان أتفاقاً بيننا أن نلقي بكل حجر صوب الهدف , بعدها تحالفت معه , وتلاحمت رغبتنا ومضينا نلملم في طريقنا كل ما أستطعنا أن نجمعه من قصص ومالبثنا أن أطلقنا أشاعات مرة بعد مرة لتشويه ناصع صفحتها
” تباً وماذا بعد ؟! ”
من بين أسنانه خرجت
قلت وأنا أبتلع ريقي :
لم يكن لنا من خيار
هو فعل ذلك أنتقاماً منها وكان يعتبرذلك بمثابة أعادة شيئاً من الأعتبار لنفسه , وأنت لم تترك لي أي حيلة ففي كل مرة كنت أحاول التقرب إليك تبتعد هارباً إليها كأني لست موجودة أصلاً!
كم قهرتني بوجع مزق روحي , وهذا الوجع دفعني لأفعل أي شيء حتي لا يتقاسمنى فيك أحد
قال بسخرية :
” هذايعني أنكِ كنتِ مجبورة ؟ هل هذا ماتحاولي إقناعي به “
قلت والف شيطان يتراقص حولي :
“ الذنب ذنب هذه المغرورة الوقحة “
سحقني بنظرة نارية وقال :
” ذنبها إنها فريدة ومتفردة , وليست رخيصة كبعضهن “
وبكلّ عنفوان ثورتي قلت :
” لا لا .. لا تتحدث معي هكذا .. أتعتقد أنّى أستحق كل هذا اللوم والتوبيخ على حبك الكاذب الذي أحتُجِزت نفسك فيه
أنت أيضاً مذنب وخبيث , وأحد أضلاع المؤامرة في شد وثاق الحبل حول عنقها فلم يكن إقناعك صعباً ونحن نمهّد للكذبة التي ستُنهي ما تبقّى من أحتمال وجودها معك والآن أصبحت تسخرﻣنا وتحاسبنا
أستشاط غضباً وقال :
” لا أسمح لكِ بهذه الوقاحة “
قوةٌ خارقة تفجّرت في عروقي فجأة جعلتني أستجمع كل شجاعتي كي أواجهه فأستطردت :
وأنا لم أعد أحتمل فظاظتك ولا حقيقة ما تخفيه على نفسك دائما من أنك أناني ذو وجه قبيح
عن أيّ حب تتحدّث؟
لوأحببتها كان من رابع المستحيلات أن تصدق عنها أي حرف من هذه النميمة الغبية
وما أستمعت لتلك الأحاديث المضحكة ، وما كنت غدرت بها ولا أتخذت من حكاوي الغرباء مرجعاً لك !!
ولكنها كانت مجرد لعبة ترضى بها كبرياؤك وغرورك ولربما أحببت أنها لا تعرف سواك ليس إلا
” ما هذه السخافة “
لا تغالط نفسك وتصم أذنك عن الحقيقة
وماذا عن الرهانٌ الذي كان بينك وبين رفيقك الدميم في أن يلفت إنتباهها له
لقد وافقت دون خجل وكأنه أمرطبيعي أن تتقاسم حبيبتك معه
نظرإلي بأستخفاف وقال :
” ومن يصدق هذا الهوس والجنون “
أكملت كلامي وأنا ما أزال متحدّيةً :
الم تكن وراء سهم الغدرالذي أخترق ظهرها بتهمة لصقت بها أمام أهلها وأنبتت أشواكاً مسمومة ظلّت ترافقها عندما أبرزت مخالبك الحادة ؛ وكشرت عن أنيابك وأدعيت أنها تطاردك وتزورك في منزلك كذباً ,
وبعدها تتالت الغمزات واللمزات تتحرّك كألسنة شياطين هوجاء في جميع الأتجاهات حتي وضعوها على كرسي البغاء وهي عذراء , ورغم ذلك لم تتولد لديك حدة الغيرة ولم تحاول تطهيرها من بشاعة هذا الأفتراء , ولم تقتلك مشاعر الندم والحسرة بل جحدت حقها كأنك لا تعرفها أبداً
صرخ في وجهي قائلاً :
“ يجب أن تعرضي نفسك علي طبيب فوراً “..
رمقته بنظرة ساخرة وسألته :
” هل تنكرأنك أدارت ظهرك لحبِها وتخليت عنها ببساطة وتجاهلت حزنها,.وأنشغلت بالركض خلف رغباتك وخيانتك لها مع الأخريات دون أن ينبس ضميرك ببنت شفة “
” أيها اللعينة، كيف تقولي ذلك “
لم أستطع أن أبتلع غصتي وجابهته قائلة :
” الم يكن في هذا الأمر إقلالاً من قدرك وإنتقاصاً من هيبتك ورجولتك وقتها و.. “
نهض كمن لدغته أفعى وقال منفعلا وثائراً :
” كفي هذيان؟! “
======
أستيقظتُ ذلك اليوم ولم أجده ولكن وجدت خاتم الزواج وعلبة السجائرمركونان على المنضدة الصغيرة بجانب الفراش
صداع يضرب كالمطارق في رأسي , قمت وأنا أترنّح، محاولة لملمة إشلاء إٔنفاسي المبعثرة في المكان
صنعت كوباً من الشاي بالقرنفل الحار وأسندت ظهري إلى المقعد
وسحبت نفساً عميقاً ثم أغمضت عيني وغصت في كرسيّ الوثيرأفكر
وبطريقة ماكرة، رفض عقلي مستهزئا الأعتراف بأية مسؤولية من طرفي , ولكي أتخلّص من شعوري بالقلق وجدتُ نفسي أبرر فعلتي كيف ، ولماذا ينبغي لي أن أندم وألوم نفسي , وهولم يكلّف نفسه عناء البحث عن الحقيقة ولم يشغله قط تكميم الأفواه أوحتى المحاولة لأثبات برائتها
وكأن يوم العقاب قد حان وبدأ العدّ التنازلي لسقوط الأقنعة
ورغم كرهي لها لابد أن أحذرها من غروره وتمثيله
هكذا قرّرت
وبين الهدوء والجمال الذي يحيط بالقصر داهمني ضوء مبهر بصعوبةٍ فتحت عينى لأستطلع الأمر
لم يمهلني الحارس كي أتحدث، كل ما أستطعت قوله هو
” وأين هي؟ “
أجاب بصوت غليظ يخترق ما تبقى من سمعي :
” سافرت قبل أسبوع لسويسرا “