يقاضيني البعض بتهمة التحزب لعبد الحليم حافظ
ويقاضيني أخرون بتهمة الكتابة عنه دون غيره
ويتساءل ساخرون هل تواسيكِ أغانيه ؟
ويتعجب الجميع من قافية هو عنوانها
يثرثرون وهم لا يعلمون أنه صوت دونت تاريخ الأيام عليه
صوت يسكنني إلي مالا نهاية يتقاطر في أعماقي ببطء
صوت كالسحر لا يتقادم بمرور الزمن ولا يفنى
صوت أصبح زادي مع حرفي وقلمي وأوراقي
والأن ..
كم من حرف يلزمني لأعبرعن صوت خارج قواعد الزمن
لم أكن قد تجاوزت التاسعة من عمري حين تعثرت بعطرصوته
كنت طفلة أطلقت جديلتها للريح للتو عندما وجدت نفسي منجذبة كالفراشة إليه
كنت أتابعه بتلقائية كلما ظهرعلى شاشة التلفاز وألصق أذني ووجهى في الشاشة كطفلة جاءت من قلب الخيال وكنجمة حالمة يعانقها صوته السماوي بصدى دفئه فتغفو بين إحساسه المنفرد وجميل أنغامه
وكالعادة كان صوت أمى يصل إلي عنان السماء متوسلاً بالسماع عن بعد حفظاً لعيناي
لكن دون جدوي
انذاك لم أكن أعلم أنه متوفي منذ زمن عتيق
وحين قصصت ضفيرتي وأصبحت على قيد الصبا تسلل صوته من عرائش الخيال ليلازمنى كالظل في أصغر جزء من أشيائي وأستطاع أن يكون أقرب شيء لي وأحن شيء وكل شيء
فرحي .. حزني .. لهفتي .. قلقي
وعلى أعتابِ الشباب أدركت أن لصوته أبجدية متخمة باحساس يشبه كل تفاصيل الجمال الرباني
وعلي دروب الحاضرأيقنت أن ذلك الصوت لا يموت صوت ليس له غياب
وحين أصبحت رومانسية النضج أهداني صدق صوته وطناَ وعمراَ وبر أمان ممدود وأحتواء يغمرني بالدفءِ والحنان
عبد الحليم ..
صوت تعلمت منه كيف تتفتح حدائق الياسمين بحقول روحي
صوت له نكهة خاصة حين أسمعه أحتاج سماءاَ ثامنةَ وأالف جناح كى أجوب الفضاء وأواعد النجوم والأقمار
صوت تعلمت منه كيف أعطر فساتيني بأريج المِسك وعطر الغار ونبض الورد
صوت يغرد في قلبى حين تغرد عصافيري في السحاب
صوت يلتقيني عند فنجان قهوة المساء ولا يخلف له ميعاد
صوت جعلني مختلفة وعلمني كيف أضع ألف قيد وقيد للهو الكلام وحوارات الخبث من هذا وذاك
صوت أثرثر له عن أوجاعي وأبوح له بأسراري وحكاياتي وتبقى سرّاَ محفوظاَ بين الضلوع وحنايا صوته
صوت أقترن بقلبي قبل أذني ومنذا ذلك الحين وأنا أرفع رايات أستسلامي لعذب طربه
وحين تغتال الأيام أحلام الورق والكلمات أصاب بالخرس والضياع وأقيم في مخيم الحزن وعندما أتكئ على حروفي تغادرني مرتجفة إلي غابة بلا مأوي ذلك الصوت يأتيني على عجل من حيث لا أدري ويتصفح دفاتري ويصبح قارئ لخواطري البسيطة وجمهور ينفض غبار اليأس وملل الأنتظارعنها
وحين أصبحت منسيةُ على أسوار الزمان أبحث في الزوايا عن فرح مخبأ يعانقني صوته ويفتت الألم ويبدد الأسى
وبعد أن جف رحيق الحنين وأصبحت الأمنيات كعجوز عذراء يأتيني صوته ليلملم خرز أحلامي المتناثر ويربت على قلبي فيستكين
صوت يحتضنتني ويهدأ من روعي حين يراني غارقة وسط عاصفة هوجاء وأمواج الضجيج والغوغاء دون شراعِ
فيفتح لي موانئي السكينة ويهديني صوته العابق بالأمل والدفء فأرسو علي شاطئه وأركل الوهم
عبد الحليم حافظ ..
صوت مرصع بالرومانسية المتوجة بصدق وعبير نقاء فهي تبدأ منه وتنتهي إليه
صوت بصمته الأصيلة موشومة على كف الزمان
صوت يتسيد ويتربع عرش الطرب في زحامِ الحناجر الصفراء
صوت محارب لأنكر الأصوات ونعيق الغربان وصخب الدخلاء
العندليب
كان الصوت الذى شرع لي الأبواب للدخول في زمن لا أعلم عنه شيئاً وأذاب مسافات جعلتني أقيم علي ضفاف حنجرة أم كلثوم وشادية ونجاة وغيرهم من جيل لم أعاصره
نعم ..
عبد الحليم رجل ليس من زمني لكنه جزء من تكويني وبمقياس قلبي سأبقى على ذمة صوته مابقى من عمري وصالاً .. سلاماً
لقد رحل بجسده وظل عبق زهره الذي لايذبل ملء القلوب والذاكرة
عبد الحليم حافظ ..
صوت بين السؤال والجواب تجده منتصراَ يبتسم لهزائم الماكرين
الاأيها المتعجب والمندهش والساخر والمنتقد والمهاجم والعابث وغيره
أما أخبرتك أنه بعد مرورأربعة عقود كاملة على رحيله مازال صوته يطغي علي مساحات واقعنا المفعم بالأحداث والتحولات التي لا تنتهي ، بل لم يظهر صوت غنائى ينافس رسوخ وخلود نجومية العندليب لدى الجماهير حتى وقتنا الحالى
وسيظل فنه تراث محفورعلي جدارية ذهبية ماسية وأسطورة فرعونية منقوشة في حضرة التاريخ
وسيظل يغزل من صوته لغة تعزف أبدية حضوره التي قدرها الأله
وسيظل عبد الحليم كيف شاء له القدر .. لا كيف أشاء
سيظل صوت متنقل بين الماضي والحاضر والمستقبل يحاكي الأرض والجغرافيا والواقع بكل طيوره وأحلامه وربيعه وسلامه وأنتصاره وفشله