إن انتقال النمور الآسيوية من عصر الزراعة إلى عصر الصناعة بناء على استراتيجية غير تقليدية، شملت تنمية الاقتصاد والثقافة والتعليم، دفع بعض مفكري الغرب من اقتصاديين وسياسيين إلى البحث عن سبب نجاح تلك الشعوب في تحقيق نهضة سريعة، وفشل غالبية شعوب العالم الثالث الأخرى في تحقيق نهضة مماثلة. الأمر الذي أوصل أولئك المفكرين إلى تطوير نظرية جديدة تدعّي أن الثقافة تلعب الدور الأهم في تحديد مصير العملية التنموية والنهضة، وبالتالي مستقبل الشعوب المختلفة. ولما كانت الثقافة تميل بطبيعتها نحو الثبات والتطور البطيء، فإن مفكري الغرب استنبطوا أن بعضَ الشعوب مكتوب لها، بسبب جيناتها الثقافية، أن تحقق النجاح وتنهض، وأن بعضها الآخر مكتوب عليها، بسبب جيناتها الثقافية أيضا، أن تبقى متخلفة. لذلك رأينا أن نطلق على هذه الرؤية “الحتمية الثقافية“، لأنها تفترض أن الثقافة هي العامل الحاسم في تحقيق نهضة الأمم من عدمها. وبناء على هذه الفلسفة، اتجه أتباع المدرسة الثقافية هذه إلى التركيز على رأس المال الاجتماعي والادّعاء بأنه العامل الأكثر تأثيراً في العملية التنموية. لكن هذه النظرية تقوم على فرضية خاطئة تقول إن الثقافة لا تتغير ولا تتطور، ما يجعلها تشكل عقبة تحول دون حدوث النهضة؛ لكن الثقافات تطورت عبر كافة مراحل التاريخ، ما يجعل ما لديها اليوم من قيم وتقاليد وعادات يكاد لا يمت بصلة لما كان لديها قبل مئات السنين، وأحيانا عشرات السنين من عناصر مماثلة.
ومع أهمية رأس المال الاجتماعي في العملية التنموية وإدارة شؤون المجتمع، إلا أن الاهتمام به كعنصر من عناصر الإنتاج لم يبرز إلا بعد تبلور دور المعرفة في العملية الإنتاجية، والتأكد من وجود علاقةٍ قوية بين علاقات الإنتاج والقيم الثقافية والعلاقات الاجتماعية السائدة في المجتمع. لكن رأس المال الاجتماعي، وخلافا لرؤية أصحاب نظرية الحتمية الثقافية، لا ينبثق عن القيم الثقافية فحسب، وإنما يشمل أيضاً القوانينَ المرعية في كل دولة وسياسات حكوماتها، وهياكل المجتمع الاجتماعية والاقتصادية. وتقول نظرية رأس المال الاجتماعي أن رأس المال ينبثق عن شيوع الثقة في المجتمع أو في أي جزء رئيسي منه، وأن الثقة هذه تفرز ثقة اجتماعية، وأن الثقة الأجتماعية تقوم بدورها في إنتاج رأس مال اجتماعي يُسهم في تفعيل عمليات التنمية والنهضة.
لكن بالرجوع إلى تجربتي الحياتية التي شملت العيش والعمل في أكثر من دولة عربية وغربية، ودراستي لهذا الأمر ولما جاء في كتابات فوكوياما وغيره، قادتني إلى نتيجة تقول مع أن وجود رأس مال اجتماعي في أي مجتمع يعتمد على مَدى شيوع الثقة الاجتماعية فيه؛ إلا أن الثقة الاجتماعية هذه تعتمد أيضا على القوانين المطبّقة، وسياسات الدولة، ومواقف المواطنين منها. وهذا يعني أن عدم ملائمة القوانين لمتغيرات الحياة، واتجاه الدولة إلى اهمالها، واتجاه عامة الناس بسبب الجهل وخلفياتهم الثقافية إلى عدم الالتزام بالقانون ولجوئهم بدلا من ذلك إلى الواسطة والمحسوبية والروابط العشائرية والمذهبية يتسبب في كل الحالات والأحيان في ضعف الثقة الاجتماعية وتراجعها في المجتمع. ومع تراجع الثقة بين الناس، خاصة بين رجال المال والاقتصاد والسياسة من ناحية، وعامة الشعب من ناحية ثانية، فإن رأس المال الاحتماعي يضعف، وأحيانا يغيب عن حياة المجتمع. ويمكن القول: إن رأس المال الاجتماعي يجسد جوهر العلاقات الإنسانية والشبكات الاجتماعية والقوانين المرعية في المجتمع، واليد الخفية التي تنظم عملية تفاعل تلك العلاقات والشبكات مع بعضها بعضا، وتسهم في تشكيل سلوكيات المشاركين فيها بالكيفية التي تضمن سلامتها وتكاملها وقيامها بالمهام المنوطة بها.
من ناحية أخرى، ينظر معظم المعنيين بالقضية الثقافية إلى رأس المال الاجتماعي بوصفه أحد أوجه الثقافة الموروثة غير القابلة للتغير، ما يجعلهم يقولون إن بعض الثقافات تملك قدرة كبيرة على إنتاج رأس مال اجتماعي، فيما لا يملك بعضها الآخر سوى قدرة ضعيفة؛ الأمر الذي يجعل الثقافات الأولى أقدر على تحقيق التنمية والنهضة من الثانية. لكن رأس المال الاجتماعي ليس مِيزة ثقافية موروثة، وإنما هو أساساً مِيزة ثقافية مكتسبة، شأنه شأن الميزة الاقتصادية التنافسية؛ الامر الذي يعني أن بإمكان كل شعب أن يكتسب رأس مال اجتماعي وميزة اقتصادية تنافسية في وقت واحد. لكن العملية هذه تحتاج إلى المرور بتجارب حياتية واعية وغير واعية، تترسخ دروسها في وجدان الشعب الثقافي وقناعات النخب المهيمنة على المجتمع، ما يجعل المجتمع يطوّر ما لديه من قوانين وشبكات تواصل وعمل وتقاليد وعلاقات اجتماعية ونظم تعليم وغير ذلك سعيا لمستقبل أفضل.
تنبثق العلاقات التي يقيمها الناس مع بعضهم بعضاً ومع مكونات بيئتهم الثقافية والاجتماعية والتكنولوجية والطبيعية عن قيم المجتمع الذي يعيشون فيه، وما لديه من مواقف فردية وجماعية، وقوانين ونظم؛ وهذه تُحددها في العادة أهداف المجتمع ومرحلة التطور الحضاري التي يمر فيها. إذ يقوم كل المجتمع، غالباً من دون وعي، بتطوير ما لديه من قِيم وتقاليد وأفكار موروثة، وسن قوانين وتشريعات جديدة، وتشييد نظم ومؤسسات غير تقليدية تؤدي في مجموعها إلى خلق رأس مال اجتماعي، قد يكون كافيا وقد لا يكون كافيا لتحقيق النمو والنهضة، لكنه يلعب دورا رئيسياً في تنمية الاقتصاد والمجتمع. وهذا يجعل رأس المال الاجتماعي سِمَة سلوكية مُكتسبة تخضع للقوانين المرعية والبيئة الثقافية والعلاقات المجتمعية والسياسات الحكومية، وليس سِمة ثقافية ثابتة موروثة. وفي الواقع، تُعدّ كل السلوكيات والمواقف سمات ثقافية موروثة جزئياً بحكم التقاليد والقيم التقليدية، وسمات ثقافية مكتسبة بحكم القوانين والنظرة العلمية للتراث والذات والآخر.
وعلى سبيل المثال، تعتبر العلاقات العائلية سمة ثقافية موروثة أساساً لانها ترتبط بالتقاليد والقيم وطرق تربية الأطفال في البيت والمدرسة، لكن ميلها إلى التأثر بالقوانين المتعلقة بحقوق الأطفال والمرأة ونزعة الإنسان نحو الحرية يجعلها سمة مكتسبة جزئياً. في المقابل تُعدّ علاقات الإنتاج أساساً سمة مكتسبة؛ لأنها تخضع لقوانين العمل وتقاليده وحوافز العمل والإنتاج، لكن ميلها إلى التأثر بالعادات والتقاليد الشعبية والهياكل الاجتماعية الرأسية يجعلها سِمَة ثقافية موروثة جزئياً. ولما كان من غير الممكن عزل أيّ علاقة عن محيطها الثقافي والاجتماعي والتكنولوجي وحصرها ضمن دائرة صغيرة، فإن كافة السلوكيات والمواقف، مهما كانت طبيعتها وأسبابها، تعتبر سمات ثقافية موروثة جزئياً ومكتسبة جزئياً، وإن تفاوتت درجة تأثير الثقافة والقانون في السلوك الفردي والجماعي بين علاقة وأخرى، ومكان وآخر، وزمن وآخر