كتابات كثيرة ظهرت هذه المدّة حول كتاب المفكّر المغربى رشيد ايلال “البخارى نهاية اسطورة” بين مؤيّدة مطلقا ومعارضة مطلقا وأخرى نقديّة انتقائية فيها فرز وغربلة ومحاولات إضافة.
يقول الرسول صلّى اللّه عليه وسلم : لا تَكْتُبُوا عَنِّي وَمَنْ كَتَبَ عَنِّي غَيْرَ الْقُرْآنِ فَلْيَمْحُهُ وَحَدِّثُوا عَنِّي وَلا حَرَجَ …
جاء هذا الحديث خشية أن يختلط كتاب اللّه بحديث الرسول فيحدث الشكّ فى الإثنين .
كذلك حفاظا على ملكة الحفظ عند المسلمين لينتقل الدين بسهولة الى الذين لا يجيدون القراءة فى الأمّة وهم أغلبيّة …
تمّ تواضعا من رسول اللّه حتى لا يرتقى كلامه الى مستوى المقدّس الذى من عند الله .
فكلام الرسول فى جزء مهمّ منه إجتهادات شخصية خاضعة للحالة العامّة والحالة الخاصة التى عليها المسلمون فى ذلك المكان والزمان.
إحترم العرب حديث رسول اللّه ولم يفعلوا غير كتابة القرآن الكريم كما فيه.
من “سلبيات” هذا القرار والعهد غياب مدوّنات حقيقية صحيحية تأرّخ لحوالى 200 سنة بعد وفاة الرسول عليه السلام …
إختفت كل خطب الجمعة التى كان يلقيها النبئ وحتى خطبة الوداع دوّنت منقوصة .
أتى العجم المسلمون من بلاد فارس وكلّفهم الخلفاء جمع الحديث خوفا عليه من الضياع فتمّت العمليّة فى أجواء غير سليمة تميّزت ب :
ـ وفاة كلّ معاصرى الرسول سواءا فى حروب الفتنة او فى الفتوحات أو ميتة طبيعيّة.
ـ صراع دمويّ على السّلطة بين آل البيت (بنى هاشم) وسادة قريش قبل ظهور الإسلام (بنى أميّة) … صراع دنيوى بين شرعيّتين واحدة دينيّة حديثة والأخرى تاريخيّة قبلية عائليّة قديمة.
ـ دسائس على الاسلام من المرتدّين وباقى الاديان خاصّة اليهود.
ـ نجاح نخب العجم واليهود فى التسلّل الى مواقع القرار فى الدولة عبر التحكّم الإدارى والمالى وكذلك الصحّى عن طريق أطباء كانوا قريبين جدا من السّلاطين.
ـ تحمّس العرب وخروجهم للفتوحات خارج الجزيرة العربيّة كان فرصة للكثيرين للهروب من الفتن التى روّعت ضحاياها النفوس وكانت فرصة أيضا لحكّام ذلك الزمن لإبعاد “المعارضة” أي “المحافظون” المتمسّكون بكتاب الله وبسنّة نبيّه الصحيحة.
فى مثل هذا المناخ العام ظهرت كتب العجم المسلمون الموجّهة والتى جمعت بين الصحيح والخاطئ … بين الصدق والكذب … بين الواقع والمدسوس.
فى ذاك الزمن كانت “أجهزة مخابراتية” تقود المشهد الدينى والثقافى العام بغية السيطرة والتوجيه والحماية للسلطة القائمة.
يعترف الطبرى فى كتابه الخطير “تاريخ الطبرى” بأنّه جمع ما روي له بدون تثبّت ولا تمحيص … يعرض بضاعته للقارئ كي يفكّر ويقارن ويستنتج … القارئ الذّكي يميّز والتابع الغبيّ يصدّق كلّ ما هو مخطوط.
قدر الأمّة أن تدفع ثمن تغييب 200 سنة من تاريخها والسماح بعدها للعجم للتأريخ لأمّة اعتمادا على سند فيه ما هو مكذوب عليه أيضا .
راجع عديد العلماء المعاصرين رحمهم الله ما كتب ماضيا وقسّموا الأحاديث الى صحيحة وخاطئة وغيرها فى محاولة منهم لغربلة علميّة سندها القرآن الكريم والسيرة النبويّة والتّاريخ معتمدين خاصة على القياس والمقارنة.
التّشويهات طالت الرسول والخلفاء خاصّة منهم عليّ ومعاوية.
تسرّبت للأحاديث “الإسرائيليات” والثقافات الوثنيّة لشعوب جنوب آسيا (انظر الأساطير والصور التى تنسب لسيّدنا عليّ كرّم الله وجهه).
سأكتفى للتّدليل على ذلك بمثلين :
1 ـ حديث الرسول صلّى الله عليه وسلّم ” إِنَّ مِنْ أَشَرِّ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ الرَّجُلَ يُفْضِي إِلَى امْرَأَتِهِ وَتُفْضِي إِلَيْهِ ثُمَّ يَنْشُرُ سِرَّهَا” …
وهذا السلوك مستمدّ أيضا من عادات وتقاليد العرب المعروفين بالغيرة الشديدة وعدم جواز الحديث عن العلاقات الحميميّة الخاصّة …
مقابل ذلك نجد عدّة “أحاديث إباحيّة ” منسوبة زورا وبهتانا للرسول عليه السلام وزوجاته خاصة عائشة …
من التقبيل الى مص اللسان وصولا لوطئ الزوجة وهي حائض.
2 ـ حديث منسوب للرسول صلّى الله عليه وسلّم : أدنى جبذات الْمَوْت بِمَنْزِلَة مائَة ضَرْبَة بِالسَّيْفِ !…
وهناك من يصل بها الى ثلاثة آلاف متناسيا ان الرحمان الرحيم رؤوف بعباده … لو كانت الموت بهذا العذاب لكانت الموتة الصغرى (النوم) بميزان عشرين او ثلاثين ضربة سيف!
فى حديث صنّف بالصحيح يقول صلى الله عليه وسلّم : إذا حضر المؤمن أتته ملائكة الرحمة بحريرة بيضاء، فيقولون: اخرجي راضية مرضياً عنك إلى روح الله وريحان، ورب غير غضبان، فتخرج كأطيب ريح المسك، حتى أنه ليناوله بعضهم بعضاً.
ثقافة التهويل والتخويف من الرحمان الرحيم الرؤوف بعباده غرست عقدا لا تحصى ولا تعد فى نفسيّة المسلمين …
وجوهر هذه الثقافة هو غرس الخوف من السلطان “خليفة الله فى الأرض” للسماح له بالاستمتاع بدنيا لرعيّة لها كل الحق فيها … فحرام التنغيص علي أمير المومنين.
الأمة تحتاج الى مراجعات ختامها تصحيح بعد دراسات تشارك فيها شيوخ المذاهب وعلماء التاريخ والاجتماع والنفس.
لا للرفض المطلق لكل ما جاء فى التّراث كما يدعو القرآنيون ولا للتأييد المطلق له كما يدعو البخاريون.
عودة الى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تَكْتُبُوا عَنِّي وَمَنْ كَتَبَ عَنِّي غَيْرَ الْقُرْآنِ فَلْيَمْحُهُ وَحَدِّثُوا عَنِّي وَلا حَرَجَ …
النصف الأوّل من الحديث موجّه الى الصحابة فى زمان ومكان معيّن ومن تفاسيره او قراءاته الكتابة عن الرسول بعد الإنتهاء من كتابة القرآن …
والنصف الثانى من الحديث فيه دعوة للإقتداء بسيرته.
ما الفرق بين الحديث والسيرة ؟ … السيرة التى هي أقل تشويه من الحديث لأنها دائما مرتبطة بحادث يسبقها كسبب وحادث يليها كنتيجة.
ختاما تتدرّج المراجع الشرعيّة للمسلمين من القرآن الكريم ثمّ السيرة والاحاديث الصحيحة تليهما إجتهادات العلماء فى غير ما ورد فى الكتاب والسنّة وأخيرا آراء العامّة التى لا يجب الإستهانة بها لأنها الدافع الحقيقي لاجتهادات النخبة.
نقد كتاب المفكّر المغربى رشيد إيلال ليس إدانة له بقدر ما هو اعتراف لشخصه بأنه نجح فى تحريك راكد مكبّل لرحلة السفينة.