كلمات الشيخ : لفته عبد النبي الخزرجي / بابل / العراق
بغداد كانت … إسما لمجد وحاضرة تاريخ .. هكذا كانت … قبل ألف من الأعوام بغداد كانت زاهية .. بعطر ألف ليلة وليلة كانت كذلك .. قبل الف عام بغداد .. يا بغداد .. يا بغداد يا واحة خضراء .. وحلم سندباد …وسحر شهرزاد بغداد يا عاصمة الدنيا .. ودجلة الخير وحاضرة العلم والادب بغداد كانت .. خارطة طريق .. هكذا كانت قبل الف عام مدينة البهلول والرشيد وملتقى الشعراء والصور وبعد الف من الأعوام تخلت بغداد عن عزها وتيبست مفاصل الحياة فيها بغداد يعتريها خجل مركب وتغفو على ضميرها المأزوم القمر لم يعد يغسل وجهها والمطر لا يغازل شعرها المشعث والسندباد لا يطيق ليلها الموشح بالعتمة لم نر السندباد يحط رحاله في حاراتها لا يزورها السندباد لا يمر بمنتدياتها بغداد صومعة للعلم كانت بغداد كانت تعطرها فضاءات الحكمة والشعر ومجالس أبي نؤاس وليالي ألف ليلة وليلة لم يعد السندباد يحج إلى بغداد مواجع الحرب أثخنتها جراحا حرب طالت خصلات شعرها وألبستها ثوب حزن قاتم حرب ثمان سنوات عجاف لكن بغداد مازالت حزينة السواد يلف سماءها… ويغلف جسدها الممزق وجرحها لما يندمل بعد بغداد تحاول مد يديها لتعانق الشمس لكن القيود تحيل أحلامها عتمة ما عادت بغداد تستحم بغرين دجلة كان أبو نؤاس ينشد بغداد شعرا يرتاد منابرها يتمشى في أزقتها كانت بغداد لا تعرف الليل ما كان الليل سباتا كان الليل سبيل معاش في بغداد توارت فضاءات الشمس لم تعد الصبايا تلهو في بساتينها جفت الخضرة على ضفاف نهرها نضبت الأشجار واستوحش الأهل في منازلها بيت الحكمة ما عاد يستوعب حوار العلماء والشمس لا تغازل نخيل بغداد النخلة شاخت ذبلت أغصانها والتهمتها المعاول بغداد تتوشح ثوبا مهلهلا فارقها القمر القمر يلفه حزن العذارى يتلوى جوعا في شوارعها المتيبسة يعتريه خجل محزن وينتابه الم ممض القمر يتخلى عن فضاءاته القمامة سرقت ضوء القمر السواد بات يتربع عرشها ويتقمصها خوف من حكاية ليست قديمة الجهل توسد جامعها الكبير والوردي يذرف دموع الأرق حزنا على دجلة الخير الزهاوي يتوجس خيفة ان ينأى القمر عن سماء بغداد والرصافي يساوره قلق مجنون فبغداد أدركها التوعك ألجواهري يخاطب جياع الشعب لتمسح العفن عن مدينة السلام ولتعود بغداد الى دجلة الخير وحسين مردان تقلقه قهقرة المسار ونازك الملائكة … تداعب بحور الشعر لتنسج لبغداد ..إكليل قوس قزح والبياتي .. يستعيد أباريقه المهشمة ليصوغ ” سيرة ذاتية لسارق النار ” ويزف لها ..متحفا بقلائد سومرية وآشورية .. وبابلية في مدينة السندباد وألف ليلة بغداد ترتدي وشاح الحزن لا يجد الفرح سبيلا لا يلامس شغاف قلبها المتوجع ازدحمت أزقتها والسندباد لا يجد متنفسا لتجارته المعطرة بتوابل الهند أسواق بغداد يستلبها تجار الموت التخمة تتعرى يفضحها … جسدها المتورم وسط كومة من جياع حمقى يذرفون العرق وينزفون العري في أسواق غرقى ببالات الموتى وعبوات الذبح وعيارات الكاتم بغداد علا وجهها غبار كالح ويستدر ضرعها ..ويستلب ضحكة أطفالها ملثموا قرون الاستباحة والجهل بغداد يساورها قلق جنوني العتمة باتت تؤرقها والمتنبي .. تخلى عن سيفه وقرطاسه وأبو تمام أكتشف الحدود بين الجد واللعب مذ كان السيف اصدق أنباء من الكتب المأمون فضل ألكسائي واغاض سيبويه لا نرى أنه يجهل علم اللغة ! ولا يميز بين العقرب والزنبور! لكن المحسوبية ذرت قرنها بغداد تسير القهقرى تتخلى عن شعرائها والصور وسلطانها يمنع ضوء القمر وشغيلتها يسلبهم الفقر خبز عيالهم …. وتؤرقهم منابر المتسلطين يندبون القرون السالفة ولا يتحسسون وجع اليتامى ولا يذكرون آهات الأرامل وصيحات الجوع وأنياب الفاقة والعوز ورغيف الخبز المتواري خلف أسوار السلطان بغداد معولة تئن من وجع متراكم تتقاسمها الهموم ويغلفها ليل بلا مصابيح وتعطرها هتافات موشومة بالعذابات وصيحات محزونة بإملاق ودموع الكادحون … لا تستوعبهم مقاهي بغداد وهمومهم تعلو طوفان القمامة دجلة يترنح باكيا من فرط إهماله تغير لونه ….. وماءه غورا النفايات تخفر ضفافه المتنبي يستعيد بعضا من عافية مسلوبة وشارعه يتنفس الصعداء وآنا أتنفس .. وارفع عصاي فأهش بها على كومة بعوض تخلد للراحة في زوايا مخدعي المظلم مكتبتي يعلوها غبار من صمت الظلمة تسلبها عطر المشيمة بغداد يكبلها قيد من احجيات وطلاسم ترسف في حبائل القمامة تأن من قيد أدمى معصمها المعصم موشوم بسياط الألم بغداد يزورها ألبياتي ليلا وحسين مردان يضمد جراحها أبو نؤاس ما زال يعاقر دجلة يمسح الليل عن وجه بغداد وبغداد تحاور الرشيد وألف ليلة وحكايا السندباد ودجلة تجلده سياط الفوضى ما عاد المطر غيثا المطر في بغداد .. قمامة سوداء ينضح من لفيفها القمل والبرغوث والجراد والضفادع ارض بغداد هامدة لا تربو ولا تهتز ولا تنبت الأزواج الخضراء اذ يلامسها الغيث كان المطر في بغداد شلال ضوء وشعاع قمر وتراتيل نعمة تغيرت معالم الأشياء واستبدلت أسمائها في ظل العباءة السوداء اتسخت معالم المدينة قال حفيدي : اللون الأسود والأسود جدا شعار الموتى وعلامات حزن قاتم أضاف حفيدي : الموتى يدفنون .. يلفهم البياض الأبيض لون العذارى تشظت آهات القوم متى يجف نهر الموت ؟؟؟ ويخلد الدم في شرايين ألأجساد الموشومة بحب الأرض؟؟ متى تعود الرؤوس إلى أبدانها ؟؟؟ ومتى ترتدي بغداد .. ثوبها الجميل ؟؟؟ وتصحو من إغفاءة .. طالت أهلها ومريديها ؟؟؟ متى توصد أبواب الخوف ؟؟؟ ويهرع الأطفال …يتنفسون عطر بغداد ؟؟؟ يحلقون في فضاءاتها ينشرون الفرح في أزقتها يتهامسون في حاراتها يزرعون الضحكات على أديم ثراها المعفر بدماء شهداءها ؟؟؟ بغداد .. يابغداد يا واحة خضراء يانعة الصبا كنت هكذا قبل ألف عام