بقلم/مجاهد منعثر منشد
بين الحين والآخر يأتي ما يطمئن قلبي بعد أن حان أجله المحتوم, وكل إنسان ليس بمنأى عن الزلل, يحاول أن يعصم نفسه في أغلب الأحيان, لعله ينال رضى مولاه, لا يطمع بالدنيا الفانية في غير ما قسمه الله له, لا ينظر إلى ما ليس له, فمذ فتحت عيني عليه كان يذكرني بالموت قائما جالسا ساجدا: اللهم الروح والراحة عند الموت والعفو حين ألقاك.
كنت صغيرا مرتميا في أحضانه سألني هل تحب الله؟
ـ نعم يا أبي, أنت قلت هو خالقنا وصاحب كل نعمة عندنا.
أردف: ولدي من يحبه تعالى عليه ألا يغضبه.
كان متواضعا, جعلني أقتل الأنا بنفسي, لا أنسى قوله: المتكبر كالقمامة في الدنيا وتخرج راحتها منها عند احتضاره وفي القبر والآخرة.
يقول الحق ولو على نفسه, وإن أخطا عاد معترفا معتذرا منتصرا على الشيطان, لا يماري, يقف للنفس وخداعها بالمرصاد ويوصيني: إياك السماح لها بالتحايل عليك وتزيين الباطل لديك، ستجرك للظلم والتهاون بالحقوق وانتهاكها وأكل السحت.
كان يردد: ما كان لله عليك بالخلف ولغيره بالتلف. وظلم الآخر لا يغفره الله كما أكل الحقوق والسحت يلطخ الذرية بالموبقات وتورث بينهم البغضاء والموت شر ميته تراها الناس, فلا تأخذك العزة بالإثم وقِ نفسك بالابتعاد واحرص على لقمة الحلال.
كنا إذا خرجنا لمحفل أو دعوة أو مجلس عزاء يحدثني عن تجارب الحياة ويربطها برضا الله, كلامه دون مبالغة.
ما جلسنا على الطعام إلا وكان حديثة تذكير و يصب بسيرة النبي وأهل بيته, كما كان يؤكد:
ياولدي إياك والخيانة وعليك بالوفاء لاسيما من أكلت معه الزاد والملح وصادقته في الله.
وعند حلول شهر رمضان في كل وجبة إفطار يهدي الفاتحة لميت من صلة الأرحام وفي السحر لوالديه.
أكثر من عشرين عاما يعاني من الأمراض حتى أصبح جليس الدار , لم أره إلا صابرا محتسبا, إلا أنه لا يحب المشفى والطبيب, ويكرر على اسماعي بحضور الأعمام:
إياك أن أموت بالمشفى, اتركني أخرج آخر أنفاسي على فراشي في المنزل .. وأعادها قبل وفاته بيوم قائلا: لا أبرئك الذمة إن لم تفعل!
عد كفنه قبل المرض وكتب الوصية معه, يخرج كفنه كل يوم ينظر إليه ثم يعيده.
في العشرين من محرم صلى المغرب والعشاء وتناول عصير الرمان, فدخل إلى مضجعه يستلقي كعادته لحين أن يغشيه النعاس, خرج بعد ساعات من غرفته لرفيقة دربه وهي تصلي صلاة الليل في الصالة,كلمها: اليوم لاتنزل أجفاني!
ردت عليه: لم يبقَ سوى ركعتين وسآتيك نتكلم لصلاة الصبح, أتمت صلاتها ذهبت لغرفته لم تره!
سارت إلى الحمامات توقعت ذهابه إليها, لم تجده, عادت للغرفة ودخلت منتصفها وجدته نائما على سريره مغمض العينين مبتسما, تحدثت إليه: حاج ,,ياحاج أمسكت يده اليمنى سقطت منها.
جاءني أخي الأصغر مسرعا مرتبكا وهو يردد والدي لا أعلم ما جرى له.
هرولت إليه حافي القدمين، من النظرة الأولى شعرت أنها علامات الموت وضعت يدي على خده قبلته, كنت أتمناه فاقد الوعي أو في حالة اغماء, ناديته: أبي ..أبي قل ياألله يامحمد ياعلي .. فتح عينيه قال بصوت ضعيف يا علي, شهق شهقه خفيفة واغمض الجفنين, فاضت روحه إلى بارئها.
يارب إني مذنب مقصر راجي عفوك لا أتفوه برؤياي لغير والدتي غير القول إن شاء الله هي خير, لكن أهتم برؤيا الناس عنه, والحمد لله قائلوها ممن نحسبهم من المؤمنين نطقوا ما يطمئن له القلب بالخير .
اللهم ارحم المؤمنين والمؤمنات ومن مات على الإيمان, واغفر لهم ما تقدم من ذنب أو تأخر, وسع عليهم قبورهم وظلهم بالرضوان واحشرهم مع حبيبك محمد وآله الطيبين الطاهرين والأولياء الصالحين المنتجبين إنك سميع مجيب وبالإجابة جدير.