الواقع الإيراني وتحوّلاته

في لحظة إيرانية معقّدة، تحتدم فيها المفاوضات النووية وتضجّ بها وسائل الإعلام، يتكرر السؤال القديم الجديد: إلى أين تتجه إيران؟
ورغم ما تُبديه بعض الدوائر من تفاؤل بمآلات الحوار، إلا أن تجارب الإيرانيين التاريخية تقول إن التحوّلات التي لا تنطلق من الرصيد الشعبي والاجتماعي الوطني لا تلبث أن تُختطف لحساب القوى الكبرى ومصالح الأنظمة.
فالرهان على المفاوضات وحدها، بعيدًا عن التمسّك بالرأسمال الوطني الذي بناه الشعب بنضاله ودمه وتضحياته، يعني إعادة إنتاج نفس الدائرة المغلقة: تعويم الاستبداد باسم التسوية، وتهميش الشعب لصالح ميزان القوى الدولية.
من هنا، فإن ركيزة أي تحوّل جذري يكمن في هذا الرأسمال الاجتماعي – السياسي الوطني الذي بات اليوم، في ظل التناقضات المتراكمة، أكثر حضورًا وفاعلية من أي وقت مضى.
رأسمال المقاومة: طاقات مجتمعية ضد الاستبداد
ما بين انتفاضات ٢٠٠٩، و٢٠١٧، و٢٠١٩، و٢٠٢٢، كانت فئات الشعب الإيراني، وخصوصًا الشباب، تصوغ حدودًا جديدة في الصراع بين الأمة والسلطة. لقد أصبح الخط الفاصل واضحًا: شعب يتطلع للتحرر، ونظام يرتكز على الإعدام والقمع والمراوغة.
هذا الرصيد المتراكم هو ما يمكن تسميته بـ الرأسمال المجتمعي المقاوم، وهو ليس شعارًا، بل حقيقة حيّة تتجسّد في وعي الأجيال، وذاكرة الساحات، وتضحيات آلاف الشهداء والمعتقلين.
إن الجيل الجديد من الطلبة والشباب، المتمرّد على الأطر الفكرية والسياسية والدينية التي فرضها النظام، يشكل أحد أهم أعمدة هذا الرأسمال الوطني – ليس فقط بالعدد، بل بجرأته ونظرته المختلفة للمستقبل.
وتحوّلت الاحتجاجات المعيشية اليومية إلى فعل سياسي واعٍ، حيث تطوّرت الشعارات من مطالب اقتصادية إلى نداءات تُطالِب بإسقاط النظام. ولعلّ ما هتف به المتقاعدون في أبريل الماضي:
“نقاوم حتى النهاية، ضد الإعدام / كاظمي! كاظمي(وزير التعليم) المدرسة ليست ثكنة!”، يؤكّد أن الرهانات لم تعد تقف عند لقمة العيش، بل باتت تطال طبيعة النظام نفسه.
النساء، الأمهات، الأسرى: ضمير الأمة
من رحم القمع خرجت حركة نسائية إيرانية تقود الصفوف في مواجهة النظام المتطرّف المعادي للمرأة، المنبثق من نظام الملالي.
النساء اللواتي كسرن جدار الخوف، وواجهن الاعتقال والجلد والحصار، هن اليوم ضمير المجتمع وصوته العالي في مواجهة الحجاب القسري والفكر الأحادي.
وبموازاة ذلك، تتقدّم أمهات العدالة، من ضحايا إعدامات الثمانينات وحتى شهداء انتفاضة 2022، ليصبحن محرّكًا معنويًا وحقوقيًا لا يمكن قمعه، بل يُرعب النظام لِما يمثله من ذاكرة لا تموت.
ولم يكن نضال الأسرى السياسيين أقل تأثيرًا؛ هؤلاء الذين سُجنوا من عشرات السنين، ولم يفقدوا إيمانهم بالحرية، هم رأسمال أخلاقي وتاريخي لا يُقدّر بثمن. يكفي أن نذكر حركة “ثلاثاء ضد الإعدام” التي باتت إحدى أبرز مظاهر العصيان المدني الرمزي.
وحدات الانتفاضة وأشرف 3: التنظيم في مواجهة العنف
في الوقت الذي يراهن فيه النظام على القمع، تُراكم وحدات الانتفاضة خبراتها، وتتكاثر وتتطور، لتصبح مؤسسة وطنية نضالية غير مركزية، تُجيد التنظيم والتخفي والتأثير.
هذا التحوّل يعبّر عن نضج سياسي واجتماعي غير مسبوق لدى الشارع الإيراني، واستعداده لتقديم البديل.
أما أشرف 3، فهو ليس مجرد مقرّ جغرافي، بل رمز للصمود والإرادة الجمعية. من هذا المعسكر انطلقت آلاف الأصوات، ومنه أيضًا يخشى النظام الإيراني لما يرمز إليه من إرث تاريخي مقاوم ضد نظام الشاه ونظام الملالي معًا.
“لا لنظام الشاه و لا لنظام الملالي”: معادلة التحرر الجذري
لقد تحوّلت الجبهة التي ترفع شعار “لا لنظام الشاه و لا لنظام الملالي” إلى إطار وطني شامل يحتوي كل التعبيرات الرافضة للديكتاتورية.
هذه الجبهة لا تُراهن على الخارج، ولا تتكئ على التوازنات، بل ترتكز على هذا الرأسمال الشعبي والاجتماعي والسياسي والثقافي الذي بناه الإيرانيون بنضالهم، وكرّسوه بخطابهم ووعيهم.
خاتمة: لا أحد سيحررنا سوانا
إن مفتاح التغيير لا يُسلّم، بل يُنتزع.
والأمل الحقيقي لا يُنتج في أروقة الدبلوماسية، بل يُصاغ في الساحات والزنزانات والمنافي، وعلى أيدي هؤلاء الذين لم يهادنوا، ولم يساوموا، ولم ينسوا أن لا أحد سيحررنا سوانا.
هذه هي المعادلة الحقيقية، والمفتاح الذي سيكسر قفل الاستبداد، ويُحرر وطنًا بأكمله.