الناقد التشكيلي والأديب سيد جمعة فى الغربة والإغتراب والتراث الشعبي في يوميات من باطن الأرض لـ الأديب والشاعر / طارق فريد
ما بين الإهداء والمقدمة التي كتبها الكاتب قد نكون بحاجة إلي التوقف علي عتباتهما قبل الولوجِ إلي النص ؛
في كتابه ” الغرابة المفهوم و تجلياته في الأدب ” يقول د . / شاكر عبد الحميد
” ومنّ انفرد وطال مقامه في البلاد والخلاء ، والبعد من الأنس – استوحش – لا سيما مع قلة الأشغال والمذاكرين .. والناس لا يفزعون إلا من شئ هائل شنيع ، وقد عاينوه أو صوره لهم واصف صدوق اللسان ، بليغ في الوصف ، ونحن لم نعاينها ولا صورها لنا صادق ”
الجاحظ : متحدثا عن الجان و الأشباح ، كتاب الحيوان ” .
ما بين الإهداء والمقدمة التي كتبها الكاتب قد نكون بحاجة إلي التوقف علي عتباتهما قبل الولوجِ إلي النص ؛ فكلمة ” المِحن ” في الإهداء تحمل إلينا عصاً نتوكأُ عليها لِندركَ الدافعُ إلي هذه السردية في قالبها الروائي الخيالي الذي إختارهُ الكاتب تعبيرا وتوصيفاً عن مُعاناة الإنسانِ في بداياتِ قرننا الحالي ، كما انهُ في المقدمة ؛ يُشيرُ إلي التأثير المُباشر وغير المُباشر لِتراثنا العربي بصفةٍ خاصة والشرقي بصفةٍ عامة الذي يستمد هذا التأثير قوتهِ و مدي تأثيرهُ من البيئات و التجمعات البشرية علي إختلافِها ؛ حيث كان ” الحكي ” والنقل الشفاهي من الأجداد إلي الأباءِ و الأمهاتِ عن التفسيراتِ لغيرِ المُدركِ من الظواهر الغير عادية والتي تكادُ تكونُ ملموسة ، ومرئيةُ رئيّ العين ، و يُستندُ إليها في كل الأحيانِ للشعورِ بالراحةِ والإطمئنانِ ، حين تعجزُ القلوبِ والعقولِ عن إدراكِ وفهمِ ما لا أمّكن إدراكهُ وتفسيرهُ بإسلوبِ علمي أو منطقيّ ، تحقيقاً لرضاء نفسيّ يُعيد التوازن قبل السقوطِ في دواماتِ الإحباطِ والإنزواء التي قد تؤدي لأمراض نفسية خطيرة وهذا كثيراً ما يحدثُ بين وفي كل البيئاتِ والطبقاتِ الإجتماعية علي إختلافِ ثقافتِها ودرجاتِ الأُميّة المُتفشية والتي تُرهلُ الأمة وتُعيقُ من حركة النهوضِ والِلحاقِ با الأُممِ من حولنا .
جاء في الأهداء :
” فالحياة تظل مجهولة في عيون من نحب حتي تأتي المحن و المواقف بخريف العلاقات الزائفة ، فكم انت رائعةٌ أيُتها المِحن .. ”
وجاء في المقدمة ”
” يوميات من باطن الأرض رواية من وحي الخيال لا تمتُ بصلةٍ لأي واقع و احببت من خلالها ان اوجه رسالة للأنسان لعلي اكون قد وفقت في نقلها وقد يكون لها صلة مع بعض ما جاء من تراثنا الشعبي من الموروث أو الحكايات التي تم نقلها عن طريق الرواة أو دون البعض كتابةٍ ؛ فهي وان تبدو مستحيلة في عالم الأنس إلا انها قد تكون نادرة الحدوث في عالم اخر …. ”
إذن نحن امام رواية سردية محمولة علي دعائمٍ من الخيالِ ، والموروث الشعبي من التراث الذي إنتقل إلينا عن طريق الرواة ، وبعضِ الكتابات المُتفرقة والتي كما نَوّهنا تشكلُ الظهير الوجداني والفكري لِمقومات الإنسان العربي الشرقي ، كما أن الرواية بلا شك مسبوقة بروياتٍ مُماثلة في ادبنا العربي بصورٍ مختلفةٍ لعل اشهرها ” كليلة ودمنة ” ، وقصص ” الف ليلة وليلة ” و العديد من قصص الخيالِ للكبارِ والصغارِ التي تُركز علي إحياء القيم وبعثها ومن ثم التمسك بها لتكون هوية للمواطنِ الصالح لأمةٍ صالحة ،.
• الرواية تدور حول إنسانٌ خِريج علوم مثقف عادي وبسيط ، رحلت زوجتَهُ و طفلهُ الأول اثناء الولادة فإستدار للحياةٍ وهجر المدينة واستقر حيث عمله كجيولجي و طبيعة عمله تكونُ في الصحراء غالباً وا ستقر في قرية من القري البسيطة الملاصقة عادةٍ للصحراء والبعيدة عن ضوضاء المدينة وما تزخرُ به من علاقاتٍ و سلوكياتٍ مُختلفة عن ما في المدن ، امضي سنواتٍ ترافقهُ ” قطةٍ” تؤنس وحشتهُ ويتزاملا في المآكلِ والمشربِ والوحدة ، و كذا الصحةِ والمرضِ والسعادة ايضا . يَفتقدُها وتفتقدَهُ ، لا يناما ولا يهجعا لراحةٍ إلا بتلازمٍ شديدٍ ، وفجأة تختفي ” بوسي ” وهذا اسم القطة ، ثم يعثر عليها ، وتكون المفاجأة الإولي أن هذه القطة من عالم الجنّ ، ثم تكون المفاجأة الأكبر انها عرضت عليه بشروطٍ ان يصحبها إلي عالم الجن والشرط الثاني وهو الأهم ايضا أنها إختارتهُ زوجاً لها ؛ و أن عليهِ ألا يخبر احداً ولا حتي اقربائهِ بذلك و الثالث وهو لا يقلُ أهمية أن يكون في طَوعِها ؛ فتكون له بهذه الطاعة والخضوعِ كل شئٍ في حياتهِ حتي أنه لا يحتاج لشئٍ غيرها ، فلا يَسئلُ أو يتسائل عما خفيّ عنهُ ، والمفاجأة الأقوي انه وافق ، وبدأ يستعد لرحلةٍ إلي باطن الأرض ، لِيمر بعوالم من الجنِ ، كالجنّ الأحمر ، والجنّ الأسود ، والجنّ الأبيض ، و هي من عالمِ الجنِّ الأبيض ، الذي هو اقرب إلي الطبيعة البشرية السوية مع إختلافاتٍ يسيرة ، يمضي معها في رحلة مجهولة وإن كان يعرف مُستقرِها عالم ” الجن الأبيض ” ، وتمضي الرحلة ونتكشف معهُ عوالمِ الجن الأخري ، و لكن بصورة اوضح عالم الجنّ الأبيض وما بهِ من عاداتٍ وسلوكياتِ قريبةٍ إلي حد بعيدٍ من عالم الإنس ، وتبدأ بداياتٍ الرحلة بإتمام مراسم الزواج منها كأميرة وإبنة امير عالم الجنّ الأبيض و بموافقتهِ ، وتتم المراسم بصورة “جِنيةٍ ” خرافيةٍ رائعة أبهرتهُ ، واسعدتهُ ، وَيسّكنُ في قصر أمير الجنّ ، الذي يوليهِ منصباً رفيعا في القصر ، ويري منها ما لم يرهُ أو سَمِع عنهُ من المُتعٍ الزوجية و الرفاهية الحياتية التي تَتُوقُ إليها النفس البشرية ، ويرزق منها بطفلتين ، لكن النفس الإنسية مُخالفة للطبيعة الجنية ، فشعر بالمللِ ، وبدأ التساؤل في نفسهِ ، وانعكس ذلك علي طبيعة الحب والودِ الذي يربطه بزوجته ، و والد زوجتهِ ، وسأل بناتهِ عما هو مَخْفٍ عنه خاصةٍ إختفاء زوجتهِ يوما كاملاً كل إسبوعٍ ، لتبدأ مغبة التساؤل الذي تعهد علي نفسهِ تجنبهُ ، فا القاهُ عدم الإلتزام بهذا في مغبة وعقوبة نقض الوعدِ ، وهي الطرد مرة اخري من عالمِ الجنِ إلي عالمِ الإنسِ ، ليعود مرة اخري من باطن الأرضِ إلي سطحِ الأرضِ ،
ليؤكد لنا الكاتب كما جاء في نهاية المقدمة
” إن السعادة كثيرا ما تأتي متأخرة بعد العناء والشقاء فيكون مذاقها اجمل بكثير من تلك التي تأتي دون عمل وكَدٍ لِتبرهنُ علي ان الانسان اكرم و اذكي المخلوقات … ” .
• قدم الدكتور / شاكر عبد الحميد كتابهُ .. بهذه الفقرة :
” الأكثر غرابة من هذه الغرابة نفسها أن تتحول الأشياء ، التي كان ينبغي النظر إليها علي انها غريبة ، إلي أشياء عادية ومألوفة ” .
إذن نحن امام غرابة يواجهها بطل القصة هذا الذي حاصرته ” المحنة ” محنة فَقدْ الزوجة والجنين قبل الولادة ، فكان إغترابه وهجرتهِ من المدينة التي شهدت محنتهِ القاسية ، وسلبت مقومات حياتهِ فا إنزوي داخل نفسهِ مع احلامه وآمالهِ وذكرياته وحتي طموحاتهِ ، وادرك أن الإغتراب والهجرة من هذه المدينة هو الحلِ الأمثلِ من إنحدارٍ في هوةٍ لا يعرفُ لها قرار ، فهاجر إلي اطراف الصحراء واختار قريةٍ قريبة من عملهِ سّكِنها ، و وجد في القطة ” الغريبة ” ، والتي سنعرفُ لاحقاً انها هي ايضاً ” مُغتربة ” مِثلهُ قدرياً ، لِيتوحدا ، ويتقاسما حياتهما معاً بعد حبٍ ، ولفترة زمنية لم تطلُ ، ليأخذنا الكاتب والبطل لإغترابٍ اقوي واعمق قد تمثلُ هلوسةً أو جنوحاً – بالنسبة لنا – إلي غيرِ المألوفِ والمعتادِ ، لكنهُ مألوفٌ من خلال الأساطيرِ والتراث الشعبي الذي يصلُ و يؤثرُ في الأشخاصِ من كلِ الطبقات ِ ، ونزوحا من المحنة ، ورغبة في سعادة مفقودة بَسطتها إليها وقدمتها له ” القطة ” بعد ان كشفت له عن كُنهها وشخصيتها الحقيقية و تحولها من جنيةٍ إلي إلي كائنٍ حيواني يعيشُ مع الإنس علي ظهرِ الأرض ، فيوافق فوراً علي الإغتراب الثاني والأبعد ، رغبةٍ في السعادة المآمولة ، وفراراً من المحنة المكلومة بها حياتهِ الأنسية ، ويبدأ سفرهِ ، ويجدُ حقيقةً ما وعدتهُ به من حياةِ مُترفةٍ ، ورفاهية الزواج والإنجاب ، والعملِ البسيط بعيدا عن المعاناةٍ التي كان يعيشها علي ظهر الأرض والأوجاعِ والمشاكلِ الدنيوية التي كانت تُحاصرهُ ، وتضاعف من محنتهِ ، ولكن بعد سنواتٍ يجد نفسهُ مُغترباً وغريباً وأن ما وجدهُ يعادل إحساسه به ما تركهُ علي ظهرِ الأرض ، فيداعبهُ فكرهِ بالرغبة في العودة إلي سطحِ الأرض ومغادرة ترفٍ مُملٍ ولا طائل منهُ و يشعرُ أن العمل و الكدّ هما الدعائم الحقيقية للسعادة والراحةِ في الحياة وليس العكسِ ، وأن الإغتراب بسبِ محنةٍ ما قد يقود الإنسان إلي إغترابٍ أعمقٍ ينتظرهُ في التراث الشعبي والبيئي ، و أحينا لا تكونُ العودة مأمونة أو محمودة .
***** ******* *******
( تَماس إسلوب الكاتب السردي بساطةٍ مع تَخيّليةِ الرواية ، ربما علي الكاتب في طبعته القادمة للرواية ان يرجع إلي مدقق لغوي ) .
ســيــد جــمــعــه
ناقد تشكيلي واديب
19 / 2 / 2019 م