في الواقع المناقشة مع قامةٍ أدبيةٍ سامقةٍ مثل دكتورة روان سكر هي في حد ذاتها متعةٌ بكل المقاييس لما تملكه من ثقافة عالية القدر، وثروة لغوية تعينها علي إجادة التصوير، وروعة الأداء، وقدرة للوصول إلي ماهو أبعد من مجرد رصد الحدث الذي هو مناط البحث،
بل الوصول الي الفكرة وبالتالي الإضافة، ومن ثم يكون الإبداع وغزارة المادة الأدبية سواء في الطرح أوالمعالجة وتلك من سمات المبدع الحق الجاد الذي له منظور مختلف من حيث المبني والمعني علي حد سواء،
فكم كانت سعادتي عندما علمتبأن مقال (المكان المغلق في شعر ابن زيدون) للكاتبة هو إختصارٌ لبحث منشور في مجلة معتمدة دولياً وهي مجلة جامعة دمشق ولأني لم أكن أعرف فأشفقت علي هذا الجمال ألايكون في كبري المجلات والصحف العالمية،
فمن الوهلةِ الأولي تشعر بأنك أمام بحثٍ متكامل الأركان والبناء،وليس مقالاًعادياً فهو أي المقال تزيَّنه جماليات فائقة، غنية، خصبة، صادقة، عميقة المعني وطريقه فنية وحبكه أدبية في التنضيد والتنسيق لاتقل بأي بحال من الأحوال عن كتابات وإبداعات كبار الكتاب والمبدعين،
فهذا السرد الأخَّاذ والأفكار المتسلسة والخطرات الذاتية التي أولتها الكاتبة للمقال جعلته جوهرة من بين ماكتبت، سواء من خلال اللفظ والمعني والأساليب والتراكيب أو من خلال العلاقة التوافقية التي أوجدتها بينها وبين النص لتجسد من خلالها حالة هذا الأديب الفيلسوف،
راصدةٌ بذلك مشاعره وأفكاره وإنفعالاته وحياته، لتنقل المتلقيإلي آفاق غير معهوده وتحلق به في سماء الخيال مثيرة الدهشة والمتعه في نفسه, كل ذلك يقع ضمن دائرة الإبداع الفني والتقني التي أجادتها الكاتبة بإقتدار،
فعلاقتها بالحرف لايقل عن علاقتها بريشتها الفنيةوتشكيلها مع سائرالأبعاد تشكيلاً فنياً عمل علي خلق متعة لدي المتلقي،فهي ترسم ملامح شخصية شاعرنا بالكلمات رسماً يشعرك بمدي العلاقة الروحية النابعة من أعماق الذات الذائبة في التجربة الفنية،فكلماتها ترسم للمتلقي ملامح فنهاوذلك من خلال تصويرها لمدينة الأندلس وقصورها، وتماثيلها، وحدائقها، وأنهارها، وطبيعتها، بشكل فني رائع يجعلنا نحلق في سماء المجد العربي التليد بإسترسالها في إستحضار الماضي.
ونحن نزعم بأن لديها الكثير في هذا المجال والذي أضحي حقيقة بعد كتابتها مقالاً أكثر روعةعن المكان المألوف أو المفتوح عند إبن زيدون آملينأن يكون بداية لتهيئة ذهن المتلقي لمضمون المكان والزمان لدي هذا الفيلسوف الأديب في مقالات قادمة إن شاء الله.
أما عن فكرة الربط بين الزمان والمكان والتي تحدثت عنها الكاتبة بشئ من التفصيل فهي فكرة ذات مغزي ومعني ودلالة ومقصد لما لها من حضور حسن ومفهوم عميق في كل الأحداث، فمن المعروف أن لكل حدث لابد أن يقع في مكان وزمان أو بالأحري له مكان وزمان وإن اختلف من الناحية العلمية عنها من الناحية الأدبية، ففكرة الزمان والمكان لها عندنا- نحن الأكادميون العلميون -فلسفة مختلفة، فمن الصعوبة بمكان الربط بينهما وذلك تبعا لكيمياء الكم(Quantum Chemistry) أو ميكانيكا الكم.
ففي السنوات الأولى من القرن العشرين، أصبحت قوانين الفيزياء المعروفة غير قادرة على تفسير حركة الأشياء الصغيرة كالذرات وجزيئات الذرات، وكان شيئا محيراً ومقلقاً أيضاً حيث كانت تلك القوانين قادرة على تفسير الأشياء الأكبر حجماً من الذرة أما الذرة وما دونها فلم تجد قوانين تفسر حركتها،
وما إن بذغت شمس عام 1925 حتي أصبح العالم علي موعد مع قوانين جديدة تختلف تماماً عن تلك الصيغ والصوروالنظريات التي صاغهاوقدمها عالم الرياضيات الأشهر اسحاق نيوتن قبل ذلك.
جاء ذلك بعد أن اكتشف أحد عباقرة العلم- علي مدي تاريخ الانسانية والحاصل علي جائزة نوبل 1932وصاحب مؤلف (الجزء والكل والفلسفة والفيزياء والطبيعة)- ميكانيكا الكم، العالم الالماني الكبير (فيرنرهايزنبرج) وبعد أن أدخل عليها عدد آخر من العلماء (شرودينجر، بول ديراك ) بعض التعديلات أصبحت قادرة على تفسير حركة كل الأشياء صغيرها وكبيرها ومن أهم وأعظم نتائج هذه النظرية في تفسير حركة الذرات كان مبدأ عدم التأكد( Uncertainty principle) ،
أوعدم اليقين أواللايقين أومبدأ الشك أو الريبة، هذا المبدأ الذي وضع هاينزبرج صيغته سنة 1927 يعتبر من أعظم المبادئ أثراً في تاريخ العلم الحديث حيث أنه يضع حدوداً لقدرة الإنسان على قياس الأشياء، فهذا المبدأ معناه أنه لا يمكن قياس خاصتين فيزيائيتين (كالمكان والسرعة) لجسيم كمي (كالإلكترون) في لحظة معينة دون وجود قدر من عدم التأكد من أحد الخاصيتين أو كليهما.
فإذا عرفنا مكان الإلكترون في لحظة أصبح من المستحيل معرفة سرعته بدقة، لأن إلكترونا متحركا في لحظة من الزمن (خلال فترة زمنية تتناهى إلى الصفر) سيبدو ساكنا أي أننا لانستطيع الربط بين زمان ومكان الإلكترون وهذا هو الإختلاف بين زمان ومكان الأديب وبين زمان ومكان علماء الكون ( العلميين).
إذاً هناك قدر لايمكن معرفته ولا نستطيع أن نكون على يقين منه وبالتالي في مفهومنا نحن العلميون نستخدم تعبير احتمال(probability)للتعبير عن وجود أي شئ في الكون أي أن كل شئ نسبي وليس هناك مايسمي بالمطلق الاّ الخالق سبحانه وتعالي ومن ثم لايمكن من الناحية العلمية الربط بين الزمان والمكان في ذات اللحظة بالتالي كانت هذه النظرية معضدة لمبدأ الفيلسوف الفرنسي ديكارت أو المبدأ الديكارتي (الشك) وهذا هو لب الموضوع ولانريد الاٍطناب في هذا لأن ذلك يتطلب منا مقالاً خاصا للربط بين العلم والفلسة.
أما عن العنوان والذي اختارته الكاتبةللمقال وإن كان منضبطاًإلاّأنه كان ينبغي أن يكون أكثر اشراقاًمن الناحية الجمالية فالعنوان لابد أن يكون منضبطاً هذا شئ حسن لكن بكلمات معبرة عن ماجاء من جمال وإشراقات سواء من الناحية الفكرية أو الجمالية في المقال،
فالعنوان كان منصباً علي المكان المغلق فقط، صحيح أن المكان المغلق عند ابن زيدون ممكن أن يتسع لمئات المقالات سواء أكان السجن أم الغربة أم…. وهو المكان الخانق الملقي خارج النفس والذي يثير في الذات الاِنسانية معاني الخوف، والقلق، والاِختناق، والزعر،
وما بينه وبين الشخص من علاقة عدوانية وسلبية قد تتخذ طابعاً عشوائياً يصعد عند الاِنسان فاعلية الاِحساس بالخوف من المجهول و……….والكثير والكثير وهذا حسن لكن يظل المقال أكثر روعةً وجمالاً وهذه رؤية شخصية.
نأتي لقصة حبه لولادة ذلك الحب الخالد والذي أضحي من سمات شعره والتي شكلت المرأة فيه جانباً مهماً وملحوظاً، فهي رمز العطاء والحنان، وعالمها يضج بالسمو والجمال وقد وصف جمالها ومنزلتها السامية واِشعاع روحها فيقول
رَبيبُ مُلكٍ كَأَنَّ اللَهَ أَنشَأَهُ
مِسكاً وَقَدَّرَ إِنشاءَ الوَرى طينا
أَو صاغَهُ وَرِقاً مَحضاً وَتَوَّجَهُ
مِن ناصِعِ التِبرِ إِبداعاً وَتَحسينا
إِذا تَأَوَّدَ آدَتهُ رَفاهِيَةً
تومُ العُقودِ وَأَدمَتهُ البُرى لينا
إن محنة السجن أو المكان السفلي أو غير المألوف والتخفي جعل ابن زيدون ينظر للمراة (ولادة) نظرة جديدة ترضي غرورها وأنوثتها وكبريائها لأن ولادة كانت تتطلع لشخص أقل مستوي عقلي و….. وبالتالي المرأة مثلت في شعره منفذاً من منافذ السوائح النفسية يلجأ اليها فيتخذ منها ملاذاًآمناًإذا ماأشقاه البعاد وأخافة الأعداء .
من كل ذلك أقول إن علاقتة بالمرأة فيها زخم عظيم لاتخطئه عين أديب، أما عن طبيعة الأندلس تلك البيئة الخلابة الساحرة والتي وقف عندها الشعراء وقفة تأملية لما لها في القلوب من وقع، ولما منحها الله سبحانه وتعالي من جمال، كانت مسرح الأحداث التي شهدت حياة الأديب الفيلسوف وبالتالي هي دائما حاضرة في كل سكناتة وحركاتة، فكنا نأمل أن يكون لها نصيب من إِبداع الكاتبة.
صفوة القول أن هذه الدراسة بالرغم ان كثيراً من المبدعين قد أدلي بدلوه فيها (دراسة الدكتور حبيب مؤنسي، حسن مجيد العبيدي، الدكتور محمد عويد محمد ساير والكثير) الاّأن الكاتبةإرتسمت منهجاً مختلفاً تماماً عن كل الدراسات السابقة.
من كل ماتقدم يمكن القول بأن الكاتبة قدمت لنا دراسة ممتعه ولمحات فنية عن حياة ابن زيدون من خلال ماتمتلكه منناصية الكلمة وحاسة الباحث الأكاديمي وجمال العرض مع براعة في العرض ،فشكراً لك أيتها الأديبة المتميزة، الباحثة المتمكنة، مع خالص شكري وتقديري