أرابيسك .. قصة قصيرة
في العام الدراسي 52/1953 كانت نهاية مرحلة الشهادة الابتدائية القديمة لتحل محلها الشهادة الإعدادية ، وكنا تلاميذ السنة النهائية نشغل فصلين فقط ؛ حوالي خمسين تلميذًا ، فلم يكن يتعدى عدد تلاميذ الفصل سبعةً وعشرين أو أقل ..!
صادق أفندي كان مدرس اللغة الإنجليزية ، كان رجلا مخلصا في عمله محبا لتلاميذه . درَّسها لنا أولاً بالسنة الثالثة ” بداية تعلم اللغة الثانية {الأجنبية } ” ثم درَّسها لنا أيضا بالسنة الرابعة النهائية . وعلمنا كيف نُحب تعلم اللغة الجديدة علينا .
***
مدرسة السلحدار الابتدائية ؛ هي الجزء الشمالي من مسجد الحاكم بأمر الله الفاطمي ؛ بمنطقة سوق الليمون بجوار بوابة القاهرة الشمالية القديمة ” الفتوح ” كانت هائلة بالنسبة لأحجامنا الصغيرة ؛ وكنا نحبها كما كنا نحب صادق أفندي ؛ فقد أرشدنا مع بداية العام الثاني لدراسة الإنجليزية إلى مجلة اسمها ” mirror ” المرآة ” لتقوية اللغة الإنجليزية تباع بمكتبة الخانجي بشارع عماد الدين .. وسط القاهرة .. نصحنا باقتنائها وقراءتها .
بحثت .. فوجدتها ؛ ولم تكن أكثر من ملزمة واحدة مطبوعة بالإنجليزية بحروف كبيرة نسبيا ، تحتوي قصصا قصيرة جدا ، بلغة بسيطة جدا ومفردات شائعة ورسوم توضيحية وبعض الأحاجي والألغاز ؛ كانت بدون ألوان وثمنها خمسة قروش ..! وكان منزلنا بشارع السيدة فاطمة النبوية ؛ خلف محكمة استئناف باب الخلق ، فكانت رحلة الذهاب والعودة من وإلى المدرسة تستدعي أن أسير يوميا حوالي ساعة كاملة على القدمين ، أقطع خلالها شارع تحت الربع الشهير حتى تقاطعه مع شارع الخيمية ثم عبور بوابة المتولي أو ( زويلة ) مع بداية شارع المعز لدين الله عابرا مسجد المؤيد شيخ ، ومنطقة الغورية ، ثم أعبر شارع الأزهر ؛ مخترقا الحمزاوي والصاغة فالجمالية والنحاسين حتى سوق الليمون حيث مدرستنا المحبوبة .
كنت أحيانا أشاهد رجلا شابا ” خواجة ” يقف على الجانب المقابل لمسجد المؤيد وأمامه حامل لوحة رسم ؛ ثلاثي الأرجل وعلى اللوحة صفحة بيضاء كبيرة ؛ يرسم بالقلم الرصاص السميك واجهة المسجد مستعينا بمنظار مقرب يستخدمه أحيانا لإيضاح ما يريد من منمنمات المبنى العلوية ، وأمامه عديد من الأقلام بأحجام وأشكال مختلفة ، وأحيانا كنت أقف للحظات _ كما كان يفعل بعض المارة _ تتنقل نظراتنا فيما بين اللوحة وحائط واجهة المسجد ومدى التطابق بينهما ؛ ثم ننصرف وفي نفس كل منا رأيه فيما يرى من ولع هؤلاء الناس ” الخوجات ” . وقد تسمع عبارة لطيفة متعجبة .. مثل ” الناس فيما يعشقون مذاهب .. أو تسمع ” الفنون جنون ” .. وغيرها من التعبيرات المشابهة ” . لم يكن ” الخواجة ” يهتم بمن يقف ليشاهد أو يسير منصرفا ، اللهم إلا ابتسامة دائمة على وجهه مع اهتمامٍ بما يقوم به .
يوما بحصة اللغة الإنجليزية ، ومحاورات صادق أفندي الإنجليزية اللطيفة معنا ؛ خطر لي أن أذكر له ذلك المشهد .
فما كان منه إلا أن اسمعنا ” شبه محاضرة ” عن ناس أوربا الخواجات وولعهم بمصر وآثارها الفرعونية والقبطية والإسلامية ، ويومها ولأول مرة أسمع عما يسمي ” علوم المصريات القديمة ” وأنه يوجد بدول أوروبا المختلفة وأمريكا ؛ معاهد ومدارس وجامعات تختص بدراسة هذه العلوم وليس عن مصر وحدها وإنما عن كل دول العالم القديم .. وإن كانت آثار مصر القديمة تحظي من جانب هذه المعاهد والجامعات بالاهتمام الأكبر والأكثر ، وانتهت شبه محاضرته بتشجيع لنا على محادثة أولئك الخواجات حيث إنهم ” غالبا ” ما يكونون ممن ألموا باللغة العربية .
والتصقت هذه العبارة بذهني لا تفارقني ، وسببت لي من القلق والتحفيز والخوف ؛ والأمل .. وما لا أدري من التصورات والخيالات .. والعواقب ..!
***
على فراشي ؛ وقبل النوم .. قررت أن أخوض تلك التجربة التي أشار بها علينا صادق أفندي . بقيت طوال اليوم الدراسي متوترا بانتظار ساعة الانصراف آملا أن أجد ذلك الرجل الشاب ” الخواجة ” في مكانه أمام مسجد المؤيد .. وسرت مترقبا حتى تخطيت حي النحاسين بالجمالية ، أصبح وما على إلا عبور شارع الأزهر لأكون قاب قوسين أو أدنى من اللقاء .. وكان بمكانه هناك .
ازدادت ضربات قلبي ، وتحسست بجيبي نصف صفحة من كراسة الواجبات المنزلية اطمئن لوجودها . كانت الناصية الأولي بيني وبينه يقف بها بائع عرقسوس أمام منضدة مبللة بالماء متراصة عليها الأكواب حول الإناء الزجاجي الكبير للعرقسوس والتمر هندي وغيره ..
تقدمت بخطوات تتصنع الهدوء حتى أصبحت بجواره تقريبا مسلطا نظراتي على اللوحة وقد أوشكت على اكتمال النصف الأعلى من المبنى .. قلت له بانجليزيتي .. مساء الخير .. ونظر نحوي بابتسامة أحسستها مشجعة قال مساء الخير .. فوجئت به يحدثني باللغة العربية كما قال صادق أفندي ؛ من أنه لابد يعرف عن اللغة العربية ، تبسمت أقول مازلت بالإنجليزية : بعد إذنك .. ” وضعت حقيبتي المدرسية مستندة على أفريز الرصيف خلفه ورجعت إلى بائع العرقسوس .. عدت أحمل كوبين .. قدمت له واحدًا منهما أقول بالعربية تفضل .. تناولها مني يقول شكرا .. وبعد الرشفة الأولي سألني ما هذا .!؟ قلت شراب الخروب .. لم يفهم عني عاد يسألني مستطعما المذاق : ” ما هذا إنه لذيذ ..!؟ ” عدت أقول شراب الخروب . لم يفهم ولم يعد للسؤال .
نظرت نحو اللوحة أقول بالإنجليزية : إنها جميلة هذه اللوحة فتبسم يقول إنها أرابيسك رائع ..
ولم أفهم معنى أرابيسك وظننته اسما للوحة .. ولم أستفهم .. وبقيت مكاني أراقب يده تخطط ببراعة منمنمات نقوش الجدار على صفحته البيضاء .
سألني دون أن يلتفت نحوي :” أين تقع مدرستك ..؟ أجبته إنها السلحدار الابتدائية وتقع بآخر هذا الشارع تماما .
قال : هذا شارع المعز لدين الله أليس كذلك ..؟ قلت نعم ومدرستي هي جزء من مسجد الحاكم بأمر الله .. توقف ينظر نحوي يقول هل تأخذني إليه غدا ..؟ قلت مبتسما نعم .. آخذك غدا إليه . تعبر خاطري سعادة ساذجة بأنني سأقابله غدا أيضا ..
عاد يخطط بالقلم رتوشًا على لوحته .. سألته .. هل هذه الرسومات كلها موجودة بأعلى الحائط ..؟ قال نعم .. ثم أمسك بالمنظار يوجهه نحوها وقال لى انظر .. فنظرت وفوجئت .. فقد قفزت النقوش أمام عيني بكل تفاصيلها الجميلة .. ثم وجهت المنظار نحو النافدة الأكبر بالجدار فكان أن رأيت تحفة فنية _ حسب ما أدركت فيما بعد _ قلت إن هذه النافذة جميلة جدا .. قال نعم إنها لكذلك وسوف انقلها في مكانها من اللوحة .
أخرجت نصف الصفحة من جيبي .. في محاولة لقراءتها أمامه فالتفت نحوي وأخذها مني وقرأ ما بها .. قال اسمك عبد الرحمن إدريس وتدرس بالسنة الرابعة الفصل الأول أليس كذلك ..؟
تبسمت أقول نعم . قال حسنا مستر إدريس غدا نلتقي لنذهب إلى مدرسة السلحدار ok ..!؟ اتسعت ابتسامتي وأنا أقول مثله .. أوكي .. والتي كنت أعرفها .. فهي ماركة مسجلة لنوع من شفرات الحلاقة ؛ أحيانا ما استعملها .
قلت باستحياء ما اسمك ..؟ قال ” أنتوني فان دايك ” .. قلت شكرا مستر أنتوني .. قال يمكنك أن تناديني ” توني ” وأسند نصف صفحتي على لوحته وعلى ظهرها كتب اسمه Antony van dyck عادت ابتسامة أكثر اتساعا تملأ وجهي وأنا أتناول صفحتي ثم حقيبتي تمهيدا للانصراف .
وتذكرت ما دار بعقلي قبل النوم مساء الأمس .. فسألته هل أنت مدرس بمدرسة ما..؟ قال مبتسما لا .. ولكني ضمن مجموعة من محبي الفنون وننتمي إلى جمعية الفنون الملكية ببروكسل (1) وهي من.. أرسلتنا إلى هنا لننفذ ما نقوم به الآن .. قلت مندهشا بعض الشيء أنتم ..!؟ قال نحن ستة أفراد ثلاثة بالقاهرة وثلاثة بالإسكندرية للآثار الرومانية ، وأنا اخترت هذا المسجد. ثم قال _ وأحسست أنه يريد إنهاء الحديث _ نحن موعدنا غدا أليس كذلك ..؟ قلت إن شاء الله غدا ، فرفع حاجبيه زاما شفتيه مع الابتسامة ذاتها ، قبل أن يعود للوحته .. وانصرفت منتبها إلى أنه كان هناك من المارة من ينظر نحونا بتعبيرات وجه مختلفة .. أسعدتني كثيرا .
***
عندما بدأنا السير باتجاه مدرسة السلحدار الابتدائية ، كان يتوقف أمام بعض المحلات متفحصا ما تعرضه ، وقد أدهشه صانع القدور النحاسية يطرقها طرقات ناعمة متوالية بأداته الصغيرة ليخلِّق الفوهة المستديرة ، كما جن جنونه بذلك الخراط جالسا أمام أدواته البدائية ” القوس والخيط وعدد من السكاكين المستطيلة – أزاميل ”
ولا أكثر ؛ يخرط قطع الخشب الصماء لتكون تحفة فنية .. وتحدث معه واشترى منه عصا مستقيمة مخروطة دوائر متدرجة من جهة إلى أخرى بشكل جميل ، وبعشرة قروش فقط ..؟
وكان سعيدا .. ومندهشا ..!
وخرجنا من الشارع الضيق إلى اتساع ميدان ” سوق الليمون ” فانبهر بالسور المرتفع للمسجد واستطالته إلى أعلى وامتداده حتى نهاية الميدان .. وظللنا نسير حتى بوابة الفتوح ، وقف تحتها يتفحص السقف والقبة والضريح الصغير على جانبها ؛ ثم خرجنا إلى واجهتها الأخرى قال ما فهمت منه أنه كانت هنا حول السور مياه يصعب عبورها على المهاجمين ، ثم عدنا رجوعا إلى أمام مسجد الحاكم بأمر الله ؛ يتأمله يتمتم بكلمات لم أفهمها .. قال وكأنه يحادث نفسه .. هذا شيء عظيم وأشار إلى المئذنة ، كنت فقط مبتسما مع شعور داخلي بالفخر وقد التف حولنا من بعيد بعض المارة . قلت إنها ليست مئذنة .. ولم أدر كيف أقول له إنها قبة فاطمية على ما أظن .. فصمتُّ للحظة لأقول بعدها إن مئذنة مسجد الحسين أجمل منها ..!
قال الحسين ..؟ قلت نعم ، قال هل تأخذني إليه ..؟ قلت نعم الآن فابتسم سعيدا .
قبل أن ننصرف .. عرضت عليه أقول ” نأكل ” مشيرا إلى محل كشري مشهور بالمنطقة أعرفه وأتعامل معه أحيانا .. أرز وعدس وصلصة طماطم لا غير ، لذيذة بشكل مخيف .. ووافق .
***
عدنا رجوعا إلى مسجد الإمام الحسين عليه السلام ، اخترقت به حواري وأزقة الجمالية ، وعبرنا النفق المظلم هناك .. وكان منبهرا بكل ما يراه .. وعند باب المسجد تركنا كل ما كان يحمله من أدواته ، اللوحة وحاملها المعدني المطوي في جرابه الجلدي ، وتركت حقيبتي أيضا لحارس الباب .. ودخلنا ، فأخذ يتأمل النقوش الداخلية على جدران المسجد والمنبر ، ثم مررنا بالضريح الكريم للإمام ودُرنا مع الدائرين حوله ، قلت له هامسا مشيرا ناحية مقصورة الضريح بزخارفها ” إنها من الذهب ..! ” فحاول أن يقترب منها أكثر من المسموح به .. فدفعته برفق للمغادرة ، وقرأت الفاتحة .. ثم خرجنا إلى الطريق بعد أن نقدت الحارس قرش صاغ كاملا مثقوبا ؛ صك السلطان حسين كامل . وآثر أن يدور دورة حول المسجد من الخارج .. وفعلنا .. قال هل هي من الذهب حقا ..!؟ قلت مؤكدا نعم إنها كذلك .
عاد يتفحص المكان حول المسجد قال هذه منطقة ممتلئة بالأرابيسك الجميل .. !! قلت له إنني لم أجد كلمة أرابيسك بقاموسي الإنجليزي ..؟ قال مبتسما ولن تجدها لأنها كلمة فرنسية .
قلت إذن كلمة أرابيسك ليست أسما للوحة ..! قال نعم هو أسمها فكلمة أربيسك الفرنسية تعني ” الزخارف العربية ” .
***
كاد النهار ينقضي ولا مجال ليعود يستكمل عمله ، قال الآن سأذهب إلى الفندق للقاء الزملاء .. فنحن نستعد للسفر خلال الأيام القادمة . قلت ألن تستكمل لوحتك .. قال هي تقريبا تامة .. إلا من بعض الرتوش أضيفها بمرسم الجمعية وتحت إشراف المدير الفني هناك .. سألته عن عنوانه هناك أقول .. لعلي أرسل لك بعض صور الزخارف العربية الأخرى .. فرأيت على وجهه سعادة وقبول ، أخذنا ركنا بالطريق وكتب لي عنوانه وبحروف انجليزية مفككة وبخط جميل جدا (2) قال وأنا احاول قراءة ما كتبه .. أما عنوانك فهو عندي مدرسة السلحدار الابتدائية بشارع المعز لدين الله بالقاهرة . أليس كذلك ..!
***
لا أظن أنه حدث من قبل .. أن يرد خطاب من أوربا إلى تلميذ بمدرسة ابتدائية ؛ ولكنه حدث لي ..!
كان المظروف يحتوي كلمة مصر بالإنجليزية ثم باللغة العربية وبخط يدوي رأيته جميلا .. مدرسة السلحدار الابتدائية ، عبد الرحمن إدريس بالسنة الرابعة .
وكان المظروف يحتوي ” كارت بوستال ” جميل وكلمة .. أو هي جملة واحدة بالعربية ” سعدت بمعرفتك عبد الرحمن ” .
***
ظللت لسنوات محتفظا بهذا الخطاب ، فخورا به ؛ وقد وفيت بوعدي .. فقد أرسلت له على عنوان مقهاه بالعاصمة البلجيكية / بروكسل بضعة كروت مصورة من داخل المسجد الحسيني وقلعة صلاح الدين وبوابة الفتوح ومسجد الحاكم بأمر الله . ولم تفارقني جملة ( أرابيسك .. تعنى زخارف عربية ) .
Soleil coin café Grand place – Brussel
*****
صلاح ياسين
المعادي 6 2 2018
(1) Royal society of arts – Brussele
(2) Antony van dyck – Soleil coin café – Grand place Brussele