أخبار عاجلةالأدب و الأدباء

الكاتب الكبير سيد جمعه وقراءه فى الجيلوجيا و عتبات النص للدكتور عزوز اسماعيل

احجز مساحتك الاعلانية

الدكتور عزوز اسماعيل يمثل للمبدعين ، وايضا عشاق الأدب ” جودو ” ، ذلك الذي طال إنتظاره ، ليحرك – كما قال الراكد – في مجري ثقافتنا وادبنا وإبداعاتنا في وقت ، كادت تجف مجارٍ وقنوات الإبداع ، في حين تنشط المطابع وتدور ما كينات الطباعة مؤخراً منتجةٍ إبداعات جديدة ، يلزمها وبحجمها مراصد قوية تمهد لها المسارات ، وتظلل عليها رعايةٍ .

قال الناقد والفنان التشكيلي سيد جمعة أيضاً عن هذه المقالة للدكتور عزوز علي إسماعيل “ذكرتني هذه المقالة البحثية ، في بدايات الستينيات وفي مجلة الهلال إن لم تخني الذاكرة بمقالة لأستاذنا الناقد الراحل / محمود امين العالم وكانت تحمل عنوانا ” المعمار الفني في رويات نجيب محفوظ ” ملقيا الضوء علي مراحل التطور التقني في كل رواية علي حدة ، وها هو دكتورنا الفاضل / عزوز ، يُلقي الضوء من خلال جيلوجية النص أوالنصوص الأدبية وتطورها ” زمكانياً ” ، وسرديا عبر تطور اللغة تحديثا لمفردات أو إيقاعات او دلالات رمزية الخ ، وبعيداً عن التشبيه برموز نقدية رحلت ، قيض الله ممن يُشار اليهم في قتها ” كمحدثين ” ومنظرين شباب جدد ، ولعل الناقد ” غالي شكري ، كان وقتها بين مجايليه من النقاد ” محدث ” إقتحم ، كما يقتحم دكتورنا الفذ / د. / عزوز اسماعيل… فضاءات نقدية بحاجة إليه ومن يحمل رغبة اٌلإقتحام ، وجرأة قلم وفكر “.

وهذه مقالة رائعة احببت ان اعيد نشرها كاملة بعيدا عن مصدرها بجريدة الأهرام وانا اعيد قرأتها اكثر من مرة ـ املاً ان تحظي بإهتمام محبي الأدب ، والنقد ، والدراسات البحثية التي نتلهف إليها .

تحياتي يا دكتور / عزوز اسماعيل سليم .

” جيولوجيا النَّصِّ، هي تلك الأشْيَاءُ التي تكوَّن منها النَّـصُّ عبر السِّنين، وما حدث للنِّص في طبيعة تطوره، ومدى اختلافه عن نصٍّ آخر من خلال القراءة العميقة له، عبر مراحله المختلفة، بمعنى أنَّ الجيولوجيا التي هي علمٌ يبحث في تكوين وطبيعة الصخور التي تكونت منها القشرة الأرضية عبر الزَّمن، هي في النِّصِّ كذلك سواء أكان النَّصُّ مكتوبًا أو مَرْسُومًا أو مَنْحُوتًا، لأنَّ عُـمْرَ النصِّ قديمٌ منذ أن جاء الإنسان إلى هذه الحياة وهو يحيا في نصٍّ مفتوح له بدايةً ونهايةً.

فكيف تكونُ “جيولوجيا النَّـصِّ” عتبةً من عتبات النُّصوص؟ إنَّ الباحثَ المدققَ في النّصِّ يجد أنَّه مرَّ بمراحل تطور كما الحياة في الإنسان نفسه، وتطور النصِّ – إذا كان نَصَّا أدبيًا – ارتبط طبيعيًا بتطور اللغة، وانتقالها من مرحلة البداوة إلى الحضر، وعن جيولوجيا النُّوع نجد أنَّ الإغريق والرُّومان كانت لديهما نصوصٌ في الشِّعر والمَسرح، ولم تكن هناك روايات خاصةً مع العصر الكلاسيكي الذي سبق ظهور المسيح عليه السَّلام.

وكان الشِّعرُ والدراما المسرحية يقالان شفاهةً، ولا يكتبان، وهذا ما يميز جولوجيا النصوص في هذا التوقيت، وظل ذلك فترة طويلة إلى أن دونوا ما كانوا يقولونه، وكانتْ نوعية الكلام تنحصر في التَّعبير عن النفس والافتخار بها ضد القوى الأخرى مثل الملاحم والسِّير الطويلة التي عبَّرت عن تلك المراحل بعد ذلك، وقد ظلت تنتقل شفاهة فترةً طويلةً وحدث بها انحرافاتٌ كثيرةٌ هذه الانحرافات أو الإضافات هي ما تمثل التغيير في “جيولوجيا النَّـصِّ”.

وكثيرٌ من تلك الملاحم ما كان يتناول حكاياتِ شعبٍ من الشُّعوب في بداية تاريخه، وكيف أنَّ تلك الجماعات قد كونت مجتمعًا كبيرًا هم كانوا الأساس فيه، وهذه التعبيرات تنحصر في الأسلوب وبناء الجمل والعبارات التي ارتبطت أيضًا بموضوع الشَّجاعة والفخر، وفي الوقت نفسه التَّعبير عن الحياة، والمفرداتُ المستخدمة كانت من واقع تلك الحياة، والمحاولة للعودة بها إلى تلك الحياة البدوية الأولى، فكانت ألفاظ بعينها.

ونسأل كيف ندخل النَّـصَّ من خلال جولوجيته؟ ندخله من خلال لغته والأشياء التي تكوَّن منها النَّصُّ، وكان لها تأثيرٌ عبر الزَّمن، والنَّـصُّ يتكون منذ البدء من الكلمة والجملة ثم الفقرة ثم الصَّفحات التي تحوي الزمان والمكان والأحداث والخطاب، وكان هناك تطورٌ في التِّقنيات السَّردية في الكتابة مع المفردات، فمنذ البدء كانت الحروبُ، فظهرت مفرداتُ الحروب وكلماتها في الكتابات، وكان ذلك في العصر الكلاسيكي تحديدًا مع تأليف “الإلياذة والأودسة” لهوميروس، التي لم تدون إلا بعد وفاته بأكثر من 400 عام، ثم مع بداية القرون الوسطى ومجيء السَّيد المسيح عليه السَّلام، ارتبطت المفردات بالدين، فظهرت أيضًا تلك المفردات في الكتابات، فحين ندرس أدب تلك العصور، فإننا ندخل من هذا الجانب، وتصبح عناوين الدِّرساتِ مرتبطةً بالعصر نفسِه، ومن ثم تصبح جيولوجيته عتبةً لتلك النُّصوص، سواء أكان النصُّ دينيًا أم غير ذلك.

وتلك الجيولوجيا التي تبحث في التغيير الذي يطرأ على العمل من داخله هي في الوقت ذاته مرتبطةٌ باللغة والبنية والأسلوب، وجميعها له ما يبرر تغيير الأمر فيه، على سبيل المثال، نرى نجيب محفوظ في العصر الحاضر تتغير جيولوجية نصَّه من خلال اللغة وسرعة السَّرد، فبعد أن كان هادئًا في “بين القصرين” ومع أول مشهد فيها والذي يؤكِّد تأثير العصر والأحداث، حيث تغيرت اللغة من الهدوء إلى السرعة المتماشية مع الزمان والمكان، على حد تعبير الدكتور أحمد درويش، ونراه في هذا المشهد متأثرًا ببلزاك الرُّوسي الذي كان يصف مشهدًا في ثمانين صفحة.

يقول نجيب محفوظ: “عند منتصف الليل استيقظتْ كما اعتادت أن تستيقظ في هذا الوقت من كل ليلة بلا استعانة من منبه أو غيره، ولكن بإيحاء من الرغبة التي تبيت عليها فتواظب على استيقاظها في دقة وأمانة وظلت لحظات على شك من استيقاظها…”

ثم نرى تلك اللغة في “اللص والكلاب” تأخذ طريقًا آخر في التغيير، فنراها متلاحقة وفي عجلة من الأمر وهذا هو التطور الجيولوجي للغة عند محفوظ يقول: “آن للغضب أن يتفجرَ وأن يحرقَ، وللخونةِ أن ييأسوا حتى الموت، وللخيانةِ أنْ تكفر عن سحنتها الشائهة، نبوية عليش، كيف انقلب الاسمان اسمًا واحداً؟ إنهما يعملان لهذا اليوم ألف حساب..” .

ونلاحظ انتقال اللغة من حالة إلى حالة، وهو ما نعنيه من جيولوجيا النَّـصِّ، أي التطور، وكما اختلفت اللغة في سرعة الإيقاع من مرحلة إلى مرحلةٍ، اختلفت الوسائل الرِّوائية الأخرى، مثل الزمان واطراده، والمكان وثباته، فظهرت في كثير من روايات هذه المرحلة الأزمنة المتداخلة أو المتداعية وظهرت فكرة الاسترجاع الماضي خلال حديث الحاضر، وظهر المكان غير الثابت واختلفت كذلك درجة شفافية الرمز وغموضه تبعًا لعوامل كثيرة منها ما يتصل بالموقف المعبر عنه، ومنها ما يتصل بالفرد المعبِّر، ولعلَّ ذلك يتضح في رواية” ثرثرة فوق النيل” سنة 1966″ .
ويزداد الأمر وضوحًا إذا تناولنا الحدث في أعمال نجيب محفوظ وكيف نظر للحدث، حيث كان في البداية ينظر إليه من زاوية واحدة كما كان في “عبث الأقدار” وخان الخليلي” و”زقاق المدق” ثم أصبح في كتاباته المتأخرة ينظر إليها من عدد من الزوايا، كما كان الحال في “ميرامار”، ويقوم برصده من زوايا متعدده”. وهذا التنوع في وسائل الفن الرِّوائي، الذي يستجيب فنّيَّاً لكثير من أنواع التنوع في المجتمع، يفتح بدوره أبوابًا لعشرات الطرق الفنية التي يؤصلها نجيب محفوظ في فنِّ الرِّواية العربية”

هذا يؤكد أنَّ التَّنوع والتغييرَ في جولوجيا النَّـصِّ هما التَّرجمة الفعلية لما يحدث في المجتمع، وعليه، تصبح تلك الجيولوجيا عتبة من عتبات النُّصوص. وكذلك الأمر التضاريس النصية Reliefs textuel. Textual topography. ذلك أن التَّضاريس النَّصِّية تلك المرتفعات والسُّهول والهِضَاب في النَّـصِّ، وما النَّصُّ في مجمله إلا مجموعةٌ من المرتفعات والمنحدرات التي تؤثِّر بالسَّلب أوالإيجاب على حراكه وتفاعله، كما الحال في الأرضِ بالضَّبطِ، وما يُقال عن النَّصِّ الأدبي الكتابي يُقال أيضًا عن رسمة اللوحة وعلى المثَّال أو النحات.

فإذا تناولنا تضاريس النَّصِّ، فإنَّها تلك التي نراها بارزةً فيه، بمعنى أنَّ المكان في النَّـصَّ إذا علا صوتُه وكان بطلًا فهو مما يميز النَّـصَّ وأصبح من مرتفعاته التي يجب أن أقرأ النَّصَّ من خلاله بحكم أنَّه عتبةٌ نصيةٌ، وكذا الأمر في الزمان، وقد تكون المرتفعات في النصِّ، أي الظاهرة للعيان، شيئًا معنويًا كما هو الحال في الألم مثلاً الذي نراه في أعمال كثيرة كما هو الحال في السِّيرة الذَّاتية وغيرها، وقد يكون البؤس والشقاء أو الفرح، وهنا تظهر مقدرة الكاتب في التعبير عن تلك الأمور المعنوية، بحسب ما يسير عليه في عمله الأدبي؛ فنرى مثلاً في قصيدة “تضاريس الفقد” للشَّاعر حُسين علي مُحَمَّد وهو شَاعِرٌ من جيل السَّبعينياتِ، قد تناولَ التَّضاريسَ المحزنةَ المملؤة بالآلام، ذلك أنَّه تناول تضاريس الأحزان التي ارتفعت في حياةِ العَرَبِ بعد نَكْسِةِ 67.

وهنا نرى أنَّ التَّضاريسَ التي يبتغيها تضاريس معنويةٌ، ولم يكتفِ بذلك، بل يستدعي لنا ذلك الباحثَ عن الحرية “عنترة بن شداد” حين جعل هناك عنوانًا آخر للقصيدة هو”خمسة مقاطع من ملحمة عنترة”. وحين استخدم الرمز للحديث عن تلك التَّجربة كان من أجل إزكاء روح التَّجربة التي تملكته، وإذا كانتْ تلك القصيدةُ قد بدأها بثلاثة مناظر واقعية “صباحًا- نهارًا- مساءً”، فهو يجسد تضاريس الحياة منذ الطفولةِ وحتى النهاية؛ ممثلًا في المساء. “وهذا المشهد يصوِّر كل معالم الانتماء، وأشواق البحث عن الجذور، ومن المفارقات اللغوية المخادعة أنَّ الشَّاعر يتجول في تضاريس فقده، ولكنَّه يجسد نفسيته وحالته الشِّعرية ويدين واقعه، في محاولة لإزالة كابوس الفقد، وحين يجعل هذه التَّضَاريس مضافةً إلى الفَقد، فهو يصوِّر حُلماً مفزعاً يخشى تحققه، أو واقعاً صادماً لا يتوقع زواله” .

يقول الشَّاعرُ:
كانت “عبلة” في غبش الصبح تطاردني
تتمنى لو تغلبني
تحلم.. أن تبصر نخلًا يثمر في الأرض القفر
كانت في الصمت الوداع.
تسقيني سهدي
بغناء حلو يتقطر فيه العطر

وفي إكماله لتلك المقاطع الخمسة التي عبَّر من خلالها عن عنترة القديم الذي يستدعيه في عصرنا الحاضر، لأخذ بثأر المظلومين الذين احتلت أراضيهم، نراه يبرهن على سبب ذلك بما آلت إليه الأمور؛ حيث “يتجوَّل الشَّاعر في هذه التَّضاريس مع محبوبته “عبلة” التي تجاوزت بعدها التَّاريخي، وتحولتْ إلى رمزٍ لكلِّ جميلِ فقدناه، وما زلنا نبحثُ عنه في سراديب الرُّؤى، ومدار الانكسارات، وصدمات الهزائم، هذا الرمز تتصدر بؤرته التأويلية دلالة “الوطن” وإشعاعات الحرية، وأشواق العودة إلى عصر الفروسية وشموخ القوة” .

ونتساءل هل عنترة العصري سيحقق لعبلة ما تريد وما يريد؟ كي يستخرج شهادة ميلاده وحريته في ظل تلك الانتكاسات المتوالية لأمةِ العرب. أعتقد أن عنترة سيعود “بخفي حنين” كما عبَّر عنه شاعر في العقد الثاني من الألفية الثالثة مصطفى الجزار.

من هنا فإنَّ تضاريسَ النَّصِّ عتبةٌ من عتبات النَّـصِّ المهمة والتي من خلالها أستطيع أن أتبين المرتفعَ في النَّـصِّ من المُنخَفضِ. وإذا اعتبرنا أن الخريطةَ نصٌّ، فإنَّ الخَرائطَ الطُبوغرافيةَ تبيِّنُ الأبعادَ الثَّلاثة للنقط التي تظهر عليها من ناحية أنها توضح تضاريس سطح الأرض، أي المرتفعات والمنخفضات، وتأثير ذلك على الأرض والمُناخ، وهو مدخل رئيسي لدراسة جغرافية المكان وعتبة؛ لذلك فإن كلَّ لونٍ مُستَخدمٍ في الخرائط الطُبوغرافيةِ له دلالته المهمَّةُ التي تبين المنخفض من المرتفع؛ فاللون الأسودُ يختص بما أدخله الإنسان واستحدثه من مبانٍ وجسور، واللونُ الأحمرُ وهو خاص بالطُّرق والمجمعات والقرى المهمة، والأزرق للتَّعبير عن المسطَّحات المائية، والأخضر لتمثيل مناطق العشب والنبات، واللون البُنِّي يختصُّ بالتَّمثيل لمظاهر التَّضاريسِ بواسطة منحنيات، فضلاً عن تمثله للصخور والمنخفضات, من هنا، فإنَّ التضاريس الجغرافية تعتبر الأساس في دراسات عديدة تتناول جغرافيا المكان وعتبة من عتباته.

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

1. نجيب محفوظ، اللص والكلاب، دار القلم، بيروت ، لبنان 1973ص 7
2. د.أحمددرويش، مدخل إلى الأدب العربي، جامعة مصر الدولية، القاهرة2008ص121
3. المرجع السابق ص 121
4. د.صابر عبدالدايم، تضاريس الفقد وتشكيل جذور الانتماء، مجلة لها، أدب وفن، 6 أبريل 2005.
5. المرجع الأسبق نفسه

احمد فتحي رزق

المشرف العام

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى