بقلم الكاتب :مجاهد منعثر الخفاجي
طلقت بغداد ومازال قلبي يهواها , لا أخفيكم هي حبيبتي وإن عشقت تربة السومريين , كذلك الزوراء تبادلني عشقها لكنها اغتصبت من أشرِّ خلق الله, وكُتِّم لسانها واستولى الرمد على عينيها وشلَّت قدماها , فجثت ركبتاها بين عبيد الدولار واعداء الانسانية .
عند طليقتي في حمام الدم أخرج كل يوم أثناء بزوغ الشمس متَّجها لعملي وانا أقود سيارتي الخاصة , فأصحاب الوجوه الصفراء والسوداء ممن يرتدون الثوب الابيض القصير يبدأ نحرهم للأبرياء وتقطيع الاجساد أشلاء بعد الساعة السابعة صباحا .
وهؤلاء لا يختلفون عن اي غراب من الغربان السود . فكلاهما يخفي تحت ذقنه الأسود الذي يشبه شعر الماعز عشَّ غرابين ويزرع كوامن البغض ويوقظ نيران الكره والحقد في قلوب أبناء الجلدة الواحدة .
في عام 2005 الساعة الثامنة إلَّا ربع كان الشارع العام بجوار متنزه الزوراء مزدحما بالسيارات وبوابة مطار المثنى تعجّ بالشباب الذين يريدون التطوع الى سلك الجيش ..
كنت اسأل نفسي وانا أقف بسيارتي في ذلك الشارع المزدحم :ـ لو جاء إرهابي بسيارة ثقيلة وفجَّر سيارته وسط هذا العدد الذي يبلغ المئات تقريبا كم سيكون عدد الضحايا؟ أو يأتي انتحاري من تنظيم القاعدة ويفجّر نفسه وسط هؤلاء الشباب المتطوعين ألا يتم القضاء عليهم جميعاً؟ لا اعرف ما الذي دعاني لذلك التفكير!
ربما لأنني اشاهد ما يحدث من حوادث مرعبة كل يوم في مثل هذه المناطق المكتظة بالنفوس البشرية . أخيرا دعوتُ الله أن يحفظ الناس فكل فرد له أسرة وأطفال ينتظرونه يأتي لهم بالقوت .
الوقوف ساعات بطوابير مرورية خانقة أمر مزعج جداً, ينتاب الانسان خوفاً منه لحادث انفجار قادم يرافقه التأخير عن العمل وافكار تسلل لذهنك دون أن تسيطر عليها نتيجة الملل .
قررت أن أنظر لبوابة المطار من جهته الثانية بمسافة خمسين متراً لأتقصَّى كيفية إدخال المتطوعين الشباب. هناك رجال الحرس الوطني بينهم شاب طويل بالعقد الثالث من العمر مسؤول على البوابة بامرته عسكريون خمسة ينظمون الشباب , فأعجبت بذلك الشاب واندهشت لنظراته بمختلف الاتجاهات , وكأنه يتوقع شيئا لا أعرفه ! انها الساعة الثامنة من صباح الخميس الرابع من مايس 2005 إذ أسرع مسؤول البوابة بشكل مفاجئ باتجاه شاب لونه أسود كان بين صفوف الشباب فأحتضنه وحمله بعيداً عن الشباب المتطوعين والسيارات الواقفة في الزحام وذهب به باتجاه البوابة , وما هي الا لحظات وتقطعت أجساد الحرس الوطني الستة بانفجار مباغت لحزام ناسف كان يرتديه ذلك الاسود اللعين .
زاد دهشتي سرعة بديهية الشهيد مسؤول البوابة الذي ضحى بحياته ,ولو اتيح له لابتعد به في الساحة داخل المطار ويبدو أن الارهابي ضغط زر الحزام اثناء حمله .
ومامحاولة الشهيد سوى ان تكون الخسائر أقل وليحافظ على حياة الآخرين المتواجدين في المكان . أعلن في اليوم التالي بالقنوات الرسمية أن الحصيلة هي استشهاد ستة من الجيش العراقي .
مرت السنون بعد ان طلقت عشيقتي وانتقلت عام 2006 الى موطن السومريين لأعيش حياتي على أرض لكش . عام 2018 كان زميلي في العمل وصديقي حسن جاسم الحمامي يتابع ما أكتبه من قصص قصيرة (الجسد , والارواح المحلقة , وزفاف أحمد ) وعن شهداء الحشد الشعبي . كنت قد علمت بأن أحد أخوته شهيد .
سألته عنه ؟ ـ أين استشهد ؟ ـ فأجابني : ببغداد . ـ في أي سنة ؟ ـ 2005. ـ في أي مكان ؟ ـ مطار المثنى .
عادت ذاكرتي تستعيد شريط الاحداث الرهيب دون ارادتي فتوقفت عن سؤاله فربما ليس هي المقصودة لشهادته . ظهرا في يوم الثلاثاء عدت لمنزلي بعد الدوام وجلست ابحث في قصة جديدة لأكتبها عن شهداء الحشد الشعبي , ودق جرس التنبيه في ذهني ! إنني لم أكتب قصة عن شهداء الجيش العراقي الذي لا يقل دورهم عن الحشد الشعبي !
صديق حسن رجل مؤمن ملتزم ألا يستحق أن أكون وفيا لصداقتي وزمالتي له ! لماذا لا احفز الروح الوطنية لدى ابناء وطني من خلال القصص القصيرة عن كل شهيد دافع عن الوطن بغض النظر عن انتسابه للحشد الشعبي او الجيش او الشرطة جميعهم تحت ظل المؤسسة الامنية ؟ صباح الاربعاء وكالعادة اجد صديقي اول من يلتقيني من الزملاء فسألته ؟ كيف استشهد شقيقك الشهيد حسين جاسم الحمامي ؟
ـ أجابني : رحمة الله عليه حضر زفاف أخينا رسول يوم الخميس والتحق في الاسبوع الثاني و في الخميس التالي تلقينا نبأ استشهاده . عاد شريط الذكريات الى الحادثة التي رأيتها في حمام الدم , فتساءلتُ : أين كان يعمل ؟
ـ بعد حسرة واضحة من زفير حسن وألم عميق قال : كان في الحرس الوطني (الجيش العراقي ) بمركز تدريب الدروع ببغداد في مطار المثنى.
انعقد لساني فأطرقت رأسي الى الأرض, وشعرت بأن الحادثة هي ذاتها والشهيد حسين أحد الشهداء الستة هذا ما تأكدت منه من الاشارات ليوم الحادثة هي يوم الخميس فسألته : ماهو تاريخ استشهاده ؟
أردف بقوله … ـ الخميس 4/5/2005 . .
هل كان حنطي البشرة , أسود الشعر وطويل القامة ؟
ـ نعم , وعيناه كبيرتان واسعتان . هل كنت رأيته من قبل ؟ ـ كلا صديقي العزيز ابو علي حسن , ولكن شهدتُ حدثَ بوابة المطار بالتاريخ الذي ذكرته .
ـ بدمعة حزن وفخر واعتزاز بالشهادة قال حسن : هو من اصطاد الغراب الأسود , الا ان ذلك الغراب صفق بطرف جناحيه على الحزام .