نافذ البصيرة, صلب الأيمان, أطاع الله ورسوله وأميرالمؤمنين والسبطين الحسن والحسين , فدى أخاه بنفسه حتّى قطعت يداه, الآخذ لغده من أمسه، الفادي له الواقي، الساعي إليه بمائه. ساقي عطشى كربلاء رأسه شامخاً لا ينحني إلا لله , لهذا ضربوه بعمود من الحديد على رأسه!
كان قمرالعشيرة شوكة في عيون الأعداء، ولما فشلوا في نزعه من عيونهم، زرعوا الشوك في عينه ! سَبع القنطرة العباس كتيبة لوحده والجيش بأكمله حال بينه وبين إيصال الماء إلى المخيم وعدم بقائه في قربته, سقوطه على الأرض ورأسه مهشم بالعمود؟
في الموقف العصيب والمشقة نطق العباس وقطعت يمينه وهو يرتجز لما تركت شهادة العباس مرارة وألماً في قلب الحسين؟
حامل لواء الحسين عمره أربعا وثلاثين سنة وسيماً جسيماً، إذا ركب الفرس المطهَّم رجلاه تخطَّان في الأرض , قبل الواقعة لمَّا أخذ ابن خاله عبد الله بن حزام أماناً من ابن زياد لحامي الظعينة وأخوته من أُمِّه ، كان رد كبش الكتيبة أبي الفضل وأخوته : لا حاجة لنا في الأمان ، أمانُ الله خيرمن أمان ابن سمية .
ولمَّا نادى شمر : أين بنوأختنا ؟ أين العباس وأخوته ؟ فلم يجبه أحد!
كلمهم الحسين : أجيبوه وإن كان فاسقاً، فإنَّه بعض أخوالكم.
فأجابه كافل زينب : ماذا تريد ؟
أسرع الشمرفي الرد : أنتم يا بني أُختي آمنون. أشتاط غضبا قمربني هاشم فأطلق كلمات الحق بوجهه : لعنك الله، ولعن أمانك، أتؤمِّننا وابن رسول الله لا أمان له!
وتكلَّم أخوته بنحو كلامه ، ثمَّ رجعوا .
تقدم العميد السقاء نحو الحسين وقد خنقته العبرة، قال : والآن يا ابن رسول الله أما لي من رخصة؟
وضع أبي عبد الله كقه الأيمن على كتف بطل العلقمي قائلا : أخي أخي عباس أنت حامل لوائي فمن لي بعدك؟
أستاذان بطل الشريعة من أخيه الحسين : أخي إذا كان لا بد أذهب وأطلب لهؤلاء الاطفال ماء، فحمل على القوم قائلا : أنا الذي أعرف عند الزمجرة بابن علي المسمى حيدرة وما أن وصل إلى الماء، ملأ القربة ولكن من شدة عطشه غرف غرفة منه ليشرب فتذكرعطش الحسين فرماه, فخاطب نفسه :
يا نفس من بعد الحسين هوني
وبـعده لا كـنت أن تكوني
هـذا الـحسين وارد المنون
وتـشربين بـاردُ الـمعين
تالله مـا هـذا فِـعَالُ ديني
وأقسم أن لا يذوق الماء, ثم حمل نحو القوم ، فصاح عمربن سعد : ويلكم حولوا بينه وبين إيصال الماء إلى المخيم فلئن وصل الماء إلى الحسين لا تمتازميمنتكم عن ميسرتكم فحمل عليهم العباس وقتل منهم مقتلة عظيمة، إلى أن كمن له رجل وراء نخلة ،فلما مر به أبو الفضل ضربه بسيفه على يمينه فبراها، فالتقت السيف بشماله ولما قطعت يمينه أنشد وهو يقول : والله لـو قـطعتموا يميني
إنـي أحامي أبداً عن ديني
وعـن إمـام صادق اليقين
نـجل النبي الطاهر الأمين
يا نفس لاتخشي من الكفار
وابـشري بـرحمة الجبّار
مـع الـنبي السيد المختار
قـد قطعوا ببغيهم يساري
فـاصلهم يا ربِّ حرّ النار
فبينما هو كذلك واذ بالسهام نزلت عليه مثل المطر، فوقع سهم في نحره، وسهم في صدره وأصاب سهم عينه اليمنى فطفاها، وسهم أصاب القربة فأريق ماؤها، فجاؤا بعمد الحديد، وضربوه على أم رأسه فهوى على الأرض مناديا : أخي يا حسين أدركني فوصل إليه وجلس عنده فوجده مطبوخ الجبين ,فخاطبه : أخي أبا الفضل، الآن أنكسرظهري الآن شمت بي عدوي وقلت حيلتي، أراد أن يحمله الحسين إلى المخيم قال : أخي دعني أموت في مكاني، اوّلاً نزل بي الموت، وثانياً أنا مستح من سكينة لأني وعدتها بالماء وكذلك الاطفال، فرفع رأسه من حجر الحسين ومرغه بالتراب، فأمسك الحسين رأس العباس وأعاده إلى حجره ,فأرجع باب الحوائج رأسه إلى الأرض ثانية حتى فعلها ثلاث مرات ، فقال له : أخي أبا الفضل لماذا كلما رفعت رأسك ووضعته في حجري تعيده إلى الأرض، قال : اخي أبا عبد الله أنت الآن تأخذ برأسي ولكن بعد ساعة من يأخذ برأسك عند ذلك صاح : أخي أبا عبد الله ، ضع فمك على فمي ، فوضع فمه على فمه حتى أفاضت روحه الزكية.
السَّلامُ عَلَيكَ أيَّها العَبـدُ الصالِحِ المُطيعُ لله ولرسُولِهِ ولأَميرِالمؤمِنين والحَسَن والحُسـينِ صَلّـى اللهُ عَلَيهم وسَلَّم ، السلامُ عليكَ ورَحَمَةُ اللهِ وَبركاتُهُ ومَغفرَتُهُ ورضوانُهُ وعلى رُوحِك وبَدَنِكَ ، أشهدُ وأشهِدُ الله أَنَّك مَضيتَ على ما مَضى بهِ البدريّونَ والمجاهدونَ في سَبيل الله، المناصِحوُن لَهُ في جِهادِ أعِدائهِ المُبالِغونَ في نُصرَةِ أوليائهِ الذّابّونَ عن أحبّائهِ، فجزاكَ اللهُ أفضل الجزاء وأكثرَ الجزاء وأوفرَ الجزاء وأوفى جزاء أحـد ممِّن وفى ببيعَتِهِ واستَجابَ لهُ دَعوَتَهُ وأطاعَ ولاةَ أمِرِه، أشَهِدُ أنّكَ قد بالغَتَ في النصيحَةِ وأعطيتَ غايَةَ المجهُودِ فبَعثَك اللهُ فـي الشُهِدِاء وجَعَلَ رُوحَك مَع أرواحِ السُّعداء وأعطاك من جنانهِ أفسحَها منـزلاً وأفضَلها غُرَفاً ورفَـعَ ذِكرَكِ فـي عليين وحَشَرَك مع النبييّن والصدّيقين والشهداءِ والصالِحينَ وحَسُنَ أولئكَ رفيقاً، أشهدُ أنّك لـم تَهن ولم تنكُل وأنَّكَ مَضِيتَ علـى بصيرَةٍ من أمرِك مقتديا بالصالحين ومُتَّبعا للنبييّن، فَجَمَعَ اللهُ بينَنا وبينَك وبين رسُوله وأوليائهِ في منازِل المخُبتين، فإنّه أرحم الراحمين.