يخيل إليَّ بأن شجاعة الانسان كالزرع تغرس فسيلته منذ الطفولة ثم تسقى فتكون شجرة عالية ,تترنم الرياح بأغصانها ,ويأكل الناس ثمارها.
مدينة تتبرقع بالغيوم شتاءً , وترعد سماؤها بعواصف مبرقة , هذا لا يخيف عبد الله , يبدو مبتهجاً عند هطول الغيث وسماع أصوات الرعد والتمتع ببريقه الذي يشبه لون وجهه المنير .
سارت به الشجاعة ان يلتحق بالإعلام الحربي مما دعاه الى ان يتذكر بعض المواقف أيام الطفولة , ركب مركب الجهاد فانطلقت الهمر من الحدباء الى مطار تلعفر وكاميرته مستقرة على فخذيه العريضتين وبجواره صالح يمسك بمقود السيارة , جالَ ذهنه لاستذكار بعض ما تكدَّس في الذاكرة من أشرطة حياتية , نقلته الى ليلة غزارة الأمطار وبريق الرعد عندما كان في السابعة من عمره ,إذ تستفزه خالته وقد غطَّى رأسه بكساء :
ـ أَيخاف البطل ؟ صوته مخيف … يقززني .
ـ كلا حبيبي , الغطاء ممنوع ,فإننا نسمعه ونراه كل شتاء فماهو الجديد ؟ خالتي : ربما سقطت علينا صاعقة فأحرقتنا .
ـ بني اذا وصل صوته لآذنيك فأعلم انه ذهب , ثم تحاول خالته الخروج من الغرفة ببطىء وهي تلمح بطرف عينيها تصرف عبد الله الصغير .
ماهي الا خطوات .. لمحته وقد رفع غطاءه ,فقالت له : بطل وشجاع يا صغيري .
توقفت تلك الذكرى مع صوت دويّ انفجار وقصف طائرة امريكية قريب من السيارة .
صالح يناديه : ـ هيا ترجَّل واحتَمِ بساترً ؟ تخفيا تحت الاشجار و أستطرد صالح بصوته الغليظ قائلا : بوركت ايها الاعلامي لعدم خوفك .
ـ الحمد لله , هذه منطقتنا لي فيها ذكريات منها تصوير أول هجوم لداعش عليها .
يعني أن ذلك التصوير كان مفتاح دخولك مع الحشد الشعبي .
ـ نعم . استأنفا سيرهما بالهمر في ذلك الصباح بعد ان قطعا 40 كيلو متر ولم يبق سوى 30 كيلو متر لوصولهما .
مازالت الكاميرا مستمرة بالتصوير … حتى أردف مسؤوله : ألا يكفي تصوير ؟
ـ دعني أخي لا نعلم متى يستشهد أحدنا !
ـ الليلة ليلتك صوِّر فيها ما شئت .
بأرق الالفاظ واحلاها أستقبلهم حاج محمد بوجه الذي يضيء بهجة واشراقاً , لكن عبد الله لم يتوقف عن التصوير ,فعرفه صالح بالحاج والزملاء مما دعاه ان يرد عليه :
ـ هذه ذكريات وما الذكرى سوى ورقة خريف لا ترتعش في الهواء هنيهة , حتى تكفن بالتراب دهراً. بضحكات عالية ملؤها الايمان قال البعض : الله يوفقك ويكثر خيرك .
أمرهما الحاج أن يأخذا قسطا من الراحة الى وقت الغداء .
وصلَّى حاج محمد بالجميع فاجتمعوا لتناول الطعام . فأخرج صالح من معطفه محفظته وأخذ يحدق بصورة صبي , تأمّل جمال عينيه الزرقاوين البراقتين الجميلتين , سأله : من هذا ؟ ابنك ؟
ـ نعم , مصطفى . الله يحفظه . اصطحب الحاج محمد عبد الله وصالح معه الى الغرفة .
وشرح لهما طبيعة الكمين المعد ضد العدو منذ الليلة الماضية بين مركز القضاء والخط الرابط بين تلعفر والحدود السورية قائلا بأنه يبعد عنهما الان 15 كيلومتراً وبما أن المنطقة شبه صحراوية مترامية الاطراف فأنها مكشوفة لداعش لذلك العملية ستكون راجلة, وأوصهما بالتخفي بين الاشجار القليلة وبعض التلول الصغيرة , ثم التفت الى الاعلامي مستفهماً :
ـ هل انت متوتر ؟ كلا , كنت أرى العمليات مصورة , والآن سأصور بنفسي , وأستأذن منهما .
واثناء خروجه حضر الشاي فتناول قدحه عائداً الى غرفة الطعام .
بعد عشرة دقائق وصل جمال يحمل ابريق شاي , وضعه على الطباخ الصغير ,فأطرق مسمعه الاعلامي بسؤال : رأيتك في تناول الغداء مهموم ؟
ـ هل كان واضحا على ملامحي لهذه الدرجة؟ نعم . ويبدو ان همك متعلق بالصورة في ديلابك !
ـ صحيح هو صديق عمري ودخلنا الحشد الشعبي سوية وتعاهدنا ان ننفذ العمليات معا , ولكن .. ولكن ماذا ؟
ـ انظر عندما يختار الانسان هذا الطريق عليه أن يربي نفسه على الشهادة .
كنا انا وهو في عملية اسناد فتم قصفنا فأصابته الشظايا ولم يصبني اي شيء. كم سنة دام فراقكم ؟
ـ سنة . ذهبت افكار جمال الى ذكرى اخر لقاء مع السيدة أم الشهيد على قبر صديقه في وادي السلام عندما قال لها :
ـ أحس بأنني مقصر . ردت عليه وأظنها تسمع صوت ابنها يردد : أهواك حين تضمني الآهات وتحضنني الجراح ,أهواك حين تناثرت الاشلاء والدم مستباح ,اهواك حين تطايرت الارواح ترفعها الرماح ,اهواك يا أمي اذا لاقيتني تنعى حياتي كل راح ,هذا دمي الدفاق يرجوك السماح , فقالت لجمال :
ـ ياولدي أختاره الله , وهو لا ينساك , فأنت تأتينا للمنزل في كل اجازة وتقضي حوائجنا يا غالي يا صديق الغالي .
أفاق جمال على نداء صالح بأن حاج محمد يطلبه ليخرجا بواجب , ودنا من عبد الله وهتف بصوته يجب ان ننام فأن التنفيذ يبدأ مع سكون الليل العميق وسيرنا كل خمسة كيلومترات سيكون بمدة قياسية .
استلقى الاعلامي على الوسادة الخاكية البسيطة وتذكر حكاية خالته له وهو صغير , واختار استذكار حكاية الشاطر حسن عندما أقبل تنين صغير على المدينة وراح يهدم البيوت ويحرقها فخاف مواجهته الناس وتصدى له حسن بهجوم وضربه عدة ضربات الى ان مات ,حينها هتف عبد الله يعيش الشاطر حسن .
فردت عليه : اذن لا تخاف من الظلام . فاردف .. ولا من الاشباح السود .
تبسمت قائلة : هي ليست أشباح انما ظل , أنظر وحركت اصابعها على الحائط .
ـ خالتي ارى الاشباح والارواح في افلام كارتون وهم يخرجون من البيوت القديمة ويصرخون . ابتسمت , ما هذه الارواح التي تضحك ؟
ـ كلا خاله لا توجد ارواح .
ـ ولدي هناك ارواح لكنها ليس شريرة لا تصرخ ولا تخيف تأتي مثل نسمات الهواء الجميلة . أفاق عبد الله من هذه الذكرى وهو يقول : الله يسامحك يا خالتي .. أرواح !!
دعيني افكر بتصوير عملية الليلة الواقعية . بعد النوم العميق أستيقظ الاعلامي في سكون الليل على صياح صالح هيا أنهض ايها البطل لنصلي كي ننطلق ,فخرجا منتصف الليل , اوصاهم حاج محمد بأن تكون العودة قبل أن يبدد الفجرُ الاول دياجيرَ الظلمة عنهم , فانطلاقا يجوبون الارض . الساعة الواحدة والنصف صالح ضلَّ الطريق فأشار عليه الاعلامي باتجاه آخر . فرد عليه بالقول :
ـ الله عليك توقف صالح بعد مسير ربع ساعة وقال دون تردد ضاعت الاشارة ! عبد الله دعني أدرس الوضع ثم ذهب يمينا وشمالا ,فسمع صوت بين شجرتين , مما دعاهم الى أشهار السلاح بوجه شخص طويل كالشجرة يرتدي ملابسهم وشعر ذقنه الاشقر يصل لحنجرته ويتلألآ وجهه نور كفلقة القمر فرن مسمعهما :
ـ شباب لحظة انتما ضيعتما الطريق كنت أراكم من بعيد ! تفكير صالح غار في اسئلة والاجابة عليها مع نفسه بسرعة بديهية عالية أختصرها بسؤال واحد : كيف عرفت ؟
ـ واضح عليكما , الى اين تذهبون؟ اردف صالح فأجابه : الى طريق الحدود السورية .
ـ الامر بسيط سأوصلكما . أوصلهم واشار بيده الطويلة كأنها رمح وكفه كرأس انسان من هنا وسألتقي بكما عندما تعودون بالسلامة و سلم ورحل ..!
وصلوا للهدف بعد عشرة دقائق , فأخرج صالح رأس السلك لربطه بجهاز التفجير . وزميله أتخذ موقعاً يبعد ثلاثة أمتار .
عادت أدراجها الذكريات لعبد الله مع خالته , إذ كان ينظف نظاراته قبل أن يلتحق بهذه المهمة ,فقالت له كيف يقبلوك بالأعلام الحربي وأنت ترتدي نظارات ؟
ـ خالتي ..خالتي العزيزة . ردت عليه :
ـ لا تقل أنك ليس بالحشد . ـ افترضي خاله أنا معهم . ولدي هل لك قلب وتقولها لي؟ تضع نفسك بالموت! وانا نذرت عمري لتربيتك بعد وفاة والديك , اليس من الاجدر بك ان تأخذ راي بالموضوع ؟
ـ خاله دخلت من أجلك . بماذا قصرت معك ؟ ـ لانك لم تقصري ,علمتيني .وكنت خلفي .وجعلتني من عبد الله الخائف الى عبد الله الشجاع القوي , الم تقولي الموت مجرد طريق وأهديتني لوحة جميلة ادركها عقلي وطبعت بقلبي تقول : احرص على الموت توهب لك الحياة .
سالت دمعتها ولهج لسانها بالقول : غلبتني والله يا عبد الله .
ـ الا نستحق انا والشباب دعوة صالحة منك بعد الصلاة ؟ قالتها وهي تنظر لوجه الباسم :تستحقون . مازال الاعلامي يبتسم لنفسه مع تلك الذكرى الرائعة ,فضربته حجر صغير من صالح في كتفه وهو يناديه : عبد الله اقبلت دورية داعش .
ترقبا وصوله والاعلامي يصور وصديقه ضغط زر العبوة فتحولت اجساد ستة من الاعداء الى اشلاء مقطعة صورها الاعلامي بدقة متناهية رغم الظلام . وغادرا المكان بعد ان اندلعت قذائف المدافع وصواريخ الحشد على مواقع الاعداء .
في طريق العودة سأل الاعلامي زميله : لم نسأل الاخ الذي رافقنا عن اسمه ؟
ـ نعم . اوصلنا بالوقت المحدد . نظر عبد الله لصالح قائلا : اعتقد اني رايته من قبل ؟
ـ ربما في احد التشكيلات . بعد الانسحاب واجتيازهم لمسافة خمسة كيلومترات قرروا ان يأخذوا قسطاً من الراحة قليلا لإكمال مسير العودة .
وهما مستلقيان على الارض بين الشجرتين خرج عليهما الشخص نفسه قائلا : الحمد لله على سلامتكما .
أثنى عليه صالح وشكره على فعله فأردف : لولاك لما وصلنا بالوقت المحدد .. الله يعظم لك الاجر ..عفوا لحد الان لم نتعرف على اسمك ؟
ـ اسمي مصطفى واهنأكما على عملكما . نظر صالح للإعلامي قائلا: يا اخي صورنا بدل رؤيتك العملية , ثم ادار وجهه الى مصطفى الذي يقف بقربهما: أًعرِّفك بعبد الله من الاعلام الحربي .
ـ نعم هي مشاهد للذكرى . انا كتبت وصيتي وسجلتها قبل سنة ونصف , ولكن اهدي تحياتي لمجاهدي الحشد الشعبي ولي فيهم اكثر من اخ ,فأقول لهم : أشتقت لكم كثيرا واوصيكم بمواصلة الجهاد وان تحافظوا على علاقتكم مع الله سبحانه وتعالى , فأنتم في نعمة كبيرة وبعد ما رأيت وسأراه فأقول : هنيئا لكم وهنيئا لكل من سار في هذا الدرب ,فالشهادة بركتها فوق التصور وتحياتي مرة اخرى وسلامي لأخي جمال . رد الاعلامي : اتعرف جمال ؟
ـ نعم اعرفه . فأستأذنه صالح ليغادروا المكان ,فقال لهما بأن الحاج محمد ارسل لهما سيارة تنقلهما وهي تقف خلف التل وتبعد عنهما 50 متراً , فذهبا اليها ووصلوا الموقع باستقبال مهيب , وذهب صالح مع الحاج الى غرفته والاعلامي لغرفة جمال ووقعت عينه على الصورة في الدولاب وعلى الفور نظر بثقب الكاميرا فأعاد الفلم .
كان جمال مكلفاً بواجب ايضا فعاد ودخل الى الحاج فقال له صالح لك سلام واخذه الى عبد الله ,فنادى ايها الاعلامي الشجاع .. يا عبد الله ..ماهو اسم الشخص الذي رأيناه ؟
رفع الاعلامي رأسه ويسيل الدمع من عينيه على وجنتيه الورديتين أشار بهز رأسه لصالح على مكان الصورة فذهب وحدق بها بحدقة عينيه السوداوين الواسعتين وبدأ الحزن على محياه .
بصوت حزين لهج لسان عبد الله : يا جمال لمن هذه الصورة ؟ ـ لصديقي الشهيد مصطفى الذي اخبرتك عنه . ـ الشهيد مصطفى .
اندهش الاعلامي وغلبه الحزن والبكاء مما جعله يثني ركبتيه ويجلس على الارض , وأستغرب جمال مما يحدث , فأخذ صالح الكاميرا وهو ينظر الى فلم تصوير مصطفى , فرأى المكان دون صورة الشهيد وصوته .وحينها علم لماذا لم يجبه عبد الله اثناء المناداة عليه .
أقبل الحاج محمد عليهم والاخرين فنهض عبد الله وعانق جمال وهما يبكيان وردد : يسلم عليك الشهيد مصطفى .