نظر الى تلك الكرة بشعره الاشعث وعينيه الشقيتين ترى هل يمضي ويداعبها بقدمه ام انه يراقب من بعيد ، كعادته لم يستطع السيطرة على جسده كأن فيها مغناطيسا يسحبه بتروي ليقبلها بحذاءه الممزق ويقذفها الى بعيد ويصيح عاليا بضحكة مشعة وحدقتين لامعتيين “قوووووول”. فجأة شعر بيد تجذبه من قميصه وتدفعه جانبا ،
_اذهب من هنا ايها الوضيع لا تتجرأ مرة اخرى وتلمس كرتي والا مزقت حذاءك الى نصفين ….نظر اليه رفيقه وقهقه عاليا
_لا تزعج نفسك يا صفوت فحذاءه ممزق وبدون اي جهد منك ….تلى كلامه بضحكة عالية جعلت كل اصدقاءه في اللعب يلتفون بالصغير النحيف ويصفقون بغيض واستهزاء .
..وقف بسرعة وهو يزمجر بين اسنانه “اغبياء” استدار الى الوراء ليتجنبهم فعددهم اكثر منه وقوامهم اخشن من جسده الهزيل ….لكن صوت احدهم قاطعه :لا تعد الى هنا يا ابن الخادمة لن نسمح بوضيع مثلك ان يلعب معنا ….كور قبضة يده الصغيرة واقترب منه ليلكم فكه القذر وثغره الذي تفوه بتلك الحماقة …لكن داخل روحه المكسورة يعلم انها ليست حماقة بل الحقيقة بعينيها ،الحقيقة التي جعلت نظراته مكسورة واحلامه محصورة ببضع كلمات “ليت ابي يعود”
وقبل ان تلمس تلك القبضة الصغيرة وجه غريمه حتى علت صيحات هاجنة وجنونية “ابن الخادمة اذهب يا ابن الخادمة ….انظرو انه ابن الخادمة ” تجمدت يده في منتصف الطريق لتهوي ارضا تماما كقلبه الذي تحطم منذ قليل .
حاول التماسك وحث عينيه على المقاومة لا يجب ان يبكي فهو رجل حتى ولو كان طفل لكن عينيه خانتا العهد وامطرتا بزخة صغيرة من حرقة الوجع على شكل دموع …التقطها بسرعة بكفه لكن عادت لتليها مجموعة اخرى من زخات قهر ، حسرة وحنين ……
ركض بعيدا بسرعة تاركا وراءه حذاءه الرث الذي إنتُزع من رجله من كثرة الهرولة فليست اول مرة يحاول فيها الفرار من قدره اللعين وكل ما يجوب بذهنه همهمات مقيتة واصوات مستنكرة تدعوه بابن الخادمة …
دلف الى بيته الصغير المتصدعة جدرانه ليجد امه غارقة في كومة من ثياب تغسلها كالعادة لتحصل على بضع فلسات لن تضاهي ابدا تعبها ….رفعت رأسها نحوه بعدما شعرت بأنفاس متشنجة تقف بالقرب منها وابتسمت رافعة مقدمة شعرها بذراعها فيداها كانتا متسختين …
ابتسمت بحنو وتكلمت :ما بك يا وليد لما عدت باكرا ألن تلعب اليوم مع اصدقاءك؟!.
ظل يرمقها بعتاب بنظرات حارقة وداخله طوفان يغلي هي السبب هي السبب في كل تلك الاهانات التي يتعرض لها يوميا .
قطبت جبينها وهتفت بحب :لابد انك تعب ،هل احضر لك شيئا لتأكله؟ لابد ان معدتك الصغيرة جائعة …ظل جامدا مكانه ينظر الى البعيد وكأن روحه فارغة ….
انقبض قلبها وقفت بسرعة بعدما مسحت يديها بأحد الاقمشة ودنت منه :مابك يا حبيبي هل ضايقوك مجددا اقسم لك هته المرة سأشكوهم الى عائلاتهم ولن يهمني اذا توقفو عن جلب ثيابهم لي …
نفر من كلامها فقد ذكرته بجرحه الذي يستحيل ان يلتئم ويخف بسببها هي ….
عاد خطوة الى الوراء مما جعلها تغير نظرها باتجاه قدميه نظرت اليه لبرهة وابتسمت :اذن حبيبي اضاع حذاءه ! فهمت غضبك اذن .
وضعت يدها برفق على مقدمة رأسه تداعب خصلات شعره الطويلة بحب :لا تقلق اعدك اني سأحظر لك حذاءا رائعا عما قريب لا تحزن ياصغيري……
قطب حاجبيه بحده ودفعها بكلتا يديه :ابتعدي عني لاتقتربي مني انت السبب لا أريدك بجانبي انتي خادمة خادمة مثلما قالو لا اريد لخادمة ان تكون امي ،اريد ابي ابتعدي عني انتي وحذاءك الذي سيكون قديما كغيره من الاحذية التي اشتريتها لي من متجر الخرداوات ….
هتف بكلماته تلك وعاد الى الركض من جديد وهته المرة خارج منزله الصغير تاركا امه مفغرة فمها تنظر الى الفراغ بعينين مكسورتين وحدقتين مملوئتين بالدموع …….
سقط على قبر والده وهو يصيح :لما مت يا ابي لما تركتني كنت بطلي ….كنت كل شيء لي اغمض عينيه بشدة و كلام الاطفال يعود ليغزوا ذهنه الصغير”يا ابن الخادمة “عض شفتيه بغضب لاسيما بعدما تذكر كيف كان كل شيء رائع في حياة والده فرغم فقره لم يبخل عليه بشيء، همس بين اسنانه دون تفكير يا ليتها ماتت مكانك انت، ليت امي هي من توفت وظللت انت بجانبي اشتقت لك ابي اشتقت لك …..
رفع جسده بوهن من قبر والده يمشي بخطى عثره وقدم تنزف لايكاد يشعر بوجعها فقلبه مكسور الى شظايا بجانبها اي الم اخر يهون …..
استوقفه صوت بكاء طفلة صغيرة تحتضن قبرا من تراب وهي تصيح:عودي الي ياامي اشتقت لك زوجة ابي تضربني بشدة وتمنع عني الطعام حتى انها حرقت يدي واعطت سريري لبنتها وانا انام ارضا حتى حذائي الجديد اخذته واعطتني اخر ممزق، عودي الي ياامي اقسم اني لن اتعبك مجددا بطلباتي ارجوك عودي دفنت راسها الصغير في قبر والدتها عل تلك الحبيبات الترابية تأخذها الى حضن امها من جديد…..
لم يشعر بشيء الا بسيوله تهطل من جديد من نهر عينيه كلام تلك الصغيرة اشاح الظلام من عينيه عباراتها المتألمة كانت كوخزات صغيرة تقذف الى قلبه وهو يعود بذاكرته الى الوراء بتحديد قبل يومين جلبت له امه شطيرة ليتناولها واخذت تحرك صحنا فارغا بعيدا عنه توهمه انها تتناول عشاءها او تلك المرات التي تشتري فيها له ثيابا قديمة ولفرحة على ثغرها ظننا منها انها تسعده.
كان ينزعج لكن لم يلاحظ انها لم تشتري لنفسها اي شيء منذ وفاة والده وتكتفي بثيابها التي تآكلت من كثرة الغسيل …..
نفض رأسه يمينا وشمالا تذكر كلامه وهو يستلقي على قبر والده تسارعت دقاته مخلفة وراءها جسدا يكاد يصاب بالاغماء لكنه تحامل على نفسه …..
وهرول بسرعة عائدا الى منزله والى حضن امه فهو لا يريد شيئا غير ان تكون معه .
_دلف الى الداخل وهو يصيح :امي ها قد عدت ياامي ….كانت ترتسم على شفتيه شبه ابتسامه فهو فعلا يشعر بالاشتياق لها لكن تلك الابتسامة انكسرت بزاوية فمه وهو يرى مكانها المعتاد الذي تجلس فيه لتغسل الثياب فارغ ابتلع لعابه ليجري الى الغرفة الوحيدة التي يملكانها وهو يهمس :امي….
وجدها فارغة لا يعلم مكانها لكن امنيته بان تموت امه اخذت تتطاير امام عينيه بكلمات وحروف من وجع وندم ….ذرفت عيونه دموع وهو يبكي بألم :اين انتي امي لا تموتي عودي
…
اتجه مهرولا الى الخارج عله يلمح صورتها لكن لا لابد انها غضبت من كلامه وتركته وحيدا فهو لا يستحق اماً مثلها ….جلس جلسة القرفصاء وهو يشهق بشدة وجسده ينتفض بألم بات وحيدا دون اب او ام …..
دفعت باباها الحديدي لتدلف داخله وهي تحمل علبة بسيطة بيدها ….رفع رأسه بعد سماعه لصوت الباب الذي فتح ، لمعت عينيه وشفتيه بابتسامة عريضة :امي.
_ركض اليها بقوة وارتمى في حضنها متشبثا بها بقوة كبيرة وهو يهتف :احبك امي احبك ارجوك سامحيني .
ابتسمت له والتقطت بكفها الرقيق دموعه التي أبت ان تتوقف :كيف اسامحك وانا لم اغضب منك بالاساس .
توقف قليلا يحدق بها بعينيه الصغيرتين :حقا يا أمي.
_اومأت برأسها وهي تبتسم :حقا فلا يوجد ام تغضب من قلبها .
ابتسم ابتسامة عريضة هذه المرة ورمى جسده عليها من جديد يقبلها بحرارة ….وضعت تلك العلبة ارضا وهي تشعر انها لامست النجوم بفرحة صغيرها :انظر ماذا جلبت لك !
_اسقط نظره الى العلبة الموضوعة بالقرب منه واجفل عينيه بصدمه :حذاء جديد هل هو لي امي ؟!.
هزت رأسها ايجابا ليحتضنها وهو يصيح :احبك امي احبك ….
التقط حذاءه قبله وارتداه بعدما احتضنه واخذ يقفز وهو يصيح :اتعلمين ياامي لقد رميت الكرة بعيدا وسجلت هدفا قوي لم يمنعه ذلك السمين انا بطل انا بطل ياامي.
_ابتسمت بحب ودموع السعادة والخوف من المستقبل تتلألأ في عينيها اجل انت بطل يا حبيبي.