في مرحلة تاريخية استثنائية، شكلت التحولات التي فجّرتها ظاهرة الصراعات الداخلية أحداثاً دراماتيكية أضحت تلقي بظلالها على الساحة العالمية، كونها تزامنت مع ثورات الربيع العربي. وتدريجاً بدأ يتسع مداها وتأثيرها، بحيث باتت الظاهرة الأكثر خطورة في تفاعلات الدول العربية بشقيها التعاوني والصراعي، ليس على الصعيد الداخلي فحسب، بل وأيضاً على كل الصعد الإقليمية والدولية. ومما لا شك فيه أن فهم هذه الظاهرة يساعد حتماً على استيعاب كل جوانب تفاعلات مؤسسات الدولة، بما فيها من محددات حاكمة لعدم الاستقرار السياسي والاجتماعي وإفراز نتائج سلبية، بخاصة المشكلات الإنسانية من حيث انتشار ظواهر مصاحبة لها، مثل ازدياد معدلات العنف والإرهاب من ناحية، وتفاقم مشكلات اللاجئين في البلدان المجاورة من ناحية أخرى، وللصراعات الداخلية الكثير من التداعيات أبرزها الآتي: أولاً: انهيار الدولة. يعتبر انهيار الدولة النتيجة الأبرز والأكثر خطورة للصراعات الداخلية في العالم، وكانت أهم إرهاصاته في الصومال بعد سقوط سياد بري، وفي كل من ليبيا واليمن والعراق وسورية في المرحلة الحالية، وليس هذا نتيجة الاحتقان الشعبي المتراكم والمزمن من جراء استبداد الأنظمة الحاكمة فقط بل يرتبط أيضاً بالإخفاق في بناء الدولة الحديثة، ومن ثم تناقص الشعور بالانتماء للوطن، وتعاظم الانتماءات المذهبية والقبلية والإقليمية ثم الاقتتال الداخلي. وقد تتسبب الصراعات الداخلية في أثار سلبية بالغة الأهمية على الدول الإقليمية المحيطة بالدولة المتضررة من هذه الصراعات، بخاصة إيجاد مناخ عام من عدم الاستقرار الإقليمي، وهو ما يمكن أن يتخذ صورة انتقال الحرب الأهلية إلى دول الجوار أو في الحيز الجغرافي نفسه. ويشهد انهيار الدولة شكلين أساسيين هما: الانهيار الشامل، أوالانهيار الجزئي. وفي الانهيار الشامل تؤدي الفوضى الناجمة عن الصراع الداخلي إلى إطاحة نظام الحكم القائم، ومن ثم تنهار مؤسسات الدولة وتتداعى أسسها السياسية وركائزها القانونية. وهنا تصل مستويات العنف إلى حدودها القصوى، وتتحول الدولة مجموعة من الدويلات المنفصلة، التي يسيطر عليها أمراء الحرب، وتعتبر حالتا اليمن بعد سقوط صنعاء في يد الحوثيين والصومال عقب إطاحة سياد برى عام 1991، الحالتين الأكثر تمثيلاً للانهيار الشامل للدولة. أما الانهيار الجزئي، فيحدث عندما تضعف سلطة الحكومة المركزية ويترهل جهازها الإداري، ما يؤدي إلى عدم سيطرة الحكومة على بعض أقاليم الدولة، وضعف فاعلية الجهاز الأمني في فرض الأمن، ما يغرى جماعات المعارضة بمواصلة القتال، لكن من دون أن تتمكن من بسط سيطرتها على جميع أراضي الدولة. ويبدو ذلك المشهد واضحاً في كل من العراق وسورية وليبيا. ثانياً: تدهور الأوضاع الاقتصادية. المفارقة المربكة نشوء ما يعرف بـ «اقتصاديات الحروب»، فقد أدت الصراعات والحروب الداخلية إلى هيمنة الميليشيات وأمراء الحرب على الشؤون الاقتصادية والآبار النفطية في المناطق التي يسيطرون عليها، ويستثمرون عائدات بيع البترول في تكديس الثروة وتدبير تكاليف الصراع. وعادة ما يرتبط هؤلاء بشبكات المافيا الدولية، كما يترك قادة الجماعات المتصارعة أتباعهم يمارسون عمليات السلب والنهب، بما في ذلك سلب مواد الإغاثة الإنسانية التي توفرها الأمم المتحدة أو المنظمات الإنسانية، كبديل من دفع الرواتب. ومن ثم يجد هؤلاء أن مصلحتهم في استمرار الصراع وتأجيجه. ويتوقف التأثير الاقتصادي بالسلب على عملية التنمية الاقتصادية في الدول المضيفة للاجئين وذلك من خلال أربعة عناصر رئيسة: سياسات الحكومة المضيفة سلباً أو إيجاباً، وردود الفعل الدولية، وتعاطف السكان المحليين، وطبيعة الدوافع والنوايا الموجودة لدى اللاجئين أنفسهم كما تساهم الصراعات الداخلية في تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للدول المنكوبة بتلك الصراعات، خصوصاً مع تزايد الإنفاق العسكري للحكومات محل الصراعات على حساب التنمية. ثالثاً: انتهاك حقوق الإنسان. شهدت الصراعات الداخلية العربية أشكالاً عدة من انتهاكات حقوق الإنسان، حيث كانت تلك الانتهاكات خاصية ملازمة لتلك الصراعات، وأداة مهمة من أدوات إدارتها. وفي هذا السياق نشير إلى وجود خمسة أشكال أساسية لهذه الانتهاكات هي: الإبادة الجماعية، انتهاك حقوق الإنسان الأساسية، انتهاك الحريات المدنية، انتهاك الحقوق السياسية، والتمييز المذهبي والاجتماعي. وقد أعلنت منظمات حقوق الإنسان أن الأراضي السورية هي الأكثر انتهاكاً لحقوق الإنسان في العالم، فقد أسفر الصراع السوري عن سقوط عدد كبير من الضحايا الأبرياء بين قتيل وجريح. ووفقاً لدراسات قامت بها منظمة «يونيسيف» تبين أن جميع الأعمال التي يقوم بها الأطفال أثناء تجنيدهم تشكل انتهاكاً صارخا لحقوق الطفل؛ فقد يكونون مقاتلين أو جواسيس، لكن في نهاية المطاف يكون مصيرهم جبهات القتال. وفي حالات كثيرة تم استعمالهم كمشاة في الطليعة لتفجير الألغام المزروعة في مشهد مأسوي. وبالنسبة الى الفتيات، فهن يُستغللن جنسياً في ما يعرف بـ «جهاد النكاح»، مع ملاحظة أن الأطفال غير مستثنين من الاستغلال الجنسي أيضاً وعند الحاجة يتم تحويل الفتيات إلى مقاتلات، وهذا يحدث في تنظيم «داعش» أكثر من حدوثه في القوات النظامية الحكومية، سواء السورية أم العراقية. ومن جهة أخرى يؤدي العنف إلى تهجير السكان بشكل قسري، هرباً من تداعيات القتال، حيث يقيم هؤلاء المهجرون عادة في معسكرات للاجئين خارج البلاد، أو معسكرات للنازحين داخل بلادهم. الأمر الذي يؤدى إلى اختلال التوازنات الطائفية في دول الملجأ، وإشعال صراعات جديدة فيها، كما يحدث في بلدة عرسال في لبنان والتي تمثل قنبلة موقوته تهدد السلم الأهلي. وتشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أن عدد اللاجئين والنازحين في العالم وصل الى 60 مليون مواطن وهم بحاجة الى عمليات إغاثة إنسانية في سابقة تاريخية خطيرة. وختاماً، إن مشكلة الصراعات الداخلية تمثل واحدة من أبرز قضايا العلاقات الدولية، ولم يحدث قط أن تفاقمت أزمة الاحتراب الداخلي إلى هذا المستوى الدموي على الساحة العربية، وقد تتفاقم هذه المأساة في المستقبل القريب وتتسع رقعتها الجغرافية وتهدد مزيداً من الدول إذا لم تكن هناك حلول جوهرية لجذور الصراعات الداخلية، وأهمها متسع من الحرية ومزيد من الديموقراطية والعدالة الاجتماعية في توزيع الثروات، ففي أغلب البلدان العربية هناك أقلية تمتلك كل شيء وأكثرية لا تمتلك أي شيء.