الشاعر والكاتب المسرحى أحمد سراج يبحث عن النهار الآتى
بحثًــا عن النَّهــار الآتِــي
محاولةٌ لإجلاء تجربةٍ تتأسسُ على طموح الشعري في أن يبَقَى، في أن يؤدي وظائفَه، وفي أن يعبِّدَ دربًا للمستقبل؛ بكلمة: في أن يكون “النهار الآتي”؛ لهذا كان انتقاء الشاعر المصري رفعت سلام وأعماله الشعرية موضوعًا للكتاب – وسأوضح أسباب هذا الاختيار بعد هنيهةٍ – وكان اختيار نخبةٍ من نقاد الوطن العربي، وشعرائه، يقدمهم ويتقدمهم محمد عبدالمطلب ناقد الحداثة الشعرية الأول – وفق تعبير محمد فكري الجزار الذي عبر عن الواقع تمامًا – وكان منهج بناء الكتاب المحدد والصارم والموضوعي كما سيتبين للقارئ الكريم.
يقسَّم الكتابِ إلى ثلاثة أبوابٍ؛ أولها (دراسات عامة)، ويتناول بعض القراءات الشاملة لتجربة سلام الشعرية، منذ وضوحها للنقاد، وحتى العمل على هذا الكتاب؛ أما الباب الثاني (دراسات الدواوين)، فيقدم دراستين مختارتين لكل ديوان. ثم يأتي باب (الشهادات) ليقدم رؤية بعض مجايلي الشاعر، ومعاصريه؛ وقد ختم الكتاب ببلوجرافيا وافية عن الشاعر والمترجم رفعت سلام.
والدراسات النقدية هنا نوعان؛ الأول، الدراسات المنشورة قبلًا؛ والثاني، الدراسات التي طلبتُ من النقاد المشاركة بها، فكتبوها خصيصًا لهذا الكتاب. وقد آثرت حذف تاريخ نشر الدراسات، ومكان هذا النشر؛ حتى لا تُعاقَ الفكرة الأساسية: الفن لا يتأثر بالزمن. أما الشهادات، فتمثل الجمع بين الحميمية الذاتية والتأمل البصير. وهكذا فنحن أمام ثلاثين عامًّا من النقد، وهي المسافة بين أول قراءةٍ، وبين آخر قراءة، وهكذا – أيضًا – نحن أمام تطبيق عملي لمعظم النظريات النقدية الحديثة.
(1)
أما سؤال: لماذا رفعت سلام؟ فأظنني أجيب بما يلي: بحقٍّ، يمثل هذا الكتاب محاولة للبحث عن شعر رفعت سلَّام، من خلال طرق تطمح إلى تقديم صورة ضافية وواضحة عن الحداثة الشعرية الإنسانية، من خلال دراسة تجربةٍ واعيةٍ، ووفيةٍ، وصبورٍ، ومثابرةٍ، وصامدةٍ، وثريةٍ، ومؤثرةٍ، ومتطورةٍ.
أما وعيها فيتمثل في فهم الشاعر لموقعه المصري والعربي والإنساني، من جهة، ومن جهة ثانية في إدراك الشاعر لكُنه الشعر وموجباته وأدواره؛ ومن ثالثة، في خبرة الشاعر بما سبقَ من كتاباتٍ ومواقف وتجارب؛ إذ يرى أن المظانَّ كلها إرثٌ له؛ فلا فرق بين ما فعل أبوللو في حفل ولادة أخيل، ولا ما قاله الحجاج في عمق الصحراء، ولا ما فعله وقاله رجلٌ شرقيٌّ يقفُ على أرض غربية ظهره لبحر الظلمات ووجهه للاشيء..
إن وفاء تجربة رفعت سلام جليًّ من نواحٍ؛ أولها أنه لم ينجرف منذ بواكيره الشعرية – التي كان وفيًّا لها وجمع قصائدها لأول مرة في ديوان (حَبو)، وجعله ضمن “ديوان رفعت سلام” الصادر عن هيئة الكتاب – للشعراء النجوم ذوي الشعبية الجارفة؛ منطلقات أو آليات، ولا للشعراء الكبار الذين آمن بتجديدهم وتجاربهم رغم علاقته القوية بهم، ومنهم قُطب الشعرية صلاح عبد الصبور – فقد ترك دم سلَّام المتساقط، أثناء مطاردته في مظاهرة، على مسودة مسرحية عبدالصبور الشعرية التي أعطاها له ليقرأها قبل طباعتها، رسالةً واضحة على قوة علاقة سلَّام بعبدالصبور – ولم ينجرف سلَّام لتبعية الشعراء المصريين الذين غادروا مصر ثم عادوا، واستطاعوا هم ومَن يتبعهم إدارة المجلات واللجان الرسمية الخاصة بالشعر؛ كما لم يتعلق بأهداب تجربة هذا أو ذاك من الشعراء العرب الذين لمعت أنجمهم والشاعر في طور التشكل أو النضج.. أقول بقيت تجربة سلَّام تقترب منها هي، وتنأى عما سواها هي؛ ما سمح لها بأن تكون هي.
يتجلى صبرُ تجربةِ سلامٍ في انتظامِ عقدِها، منذُ الكلمةِ الأولى حتى الكلمة التي لما تُكتَب بعدُ، فكأنه ينحت تمثالًا في جبلٍ؛ لكأنه يشبه الفنان المصري القديم، الذي يحمل أدواته المخفية في عناية، ويبدأ في صياغة الجبل معبدًا، ومعراجًا للسماء يسميه البعض قبرًا، غير آبهٍ بعواء الذئاب، ولا بضجيج الحفلاتِ التي تغصُّ بفنانين ينحنون تحت أقدام الملوك؛ هذه أدوات رفعت سلام؛ قلم رصاص ودفتر على الأغلب؛ وهذا ما ينتج؛ دواوين وتراجم كاملة لكبار شعراء الحداثة.
كيف يُمكنُ تفسيرُ تمسكِ رفعت سلام بما سمَّاه محمد عبد المطلب “الإحياء بالشعر“، وعدم تخليه عن تطويره؟ كيف يمكن تفسير عودة رفعت سلام لترجمة ريتسوس مرةً ثانية في أكثر من الألف صفحة؟ كيف يمكن تفسير قيامه بترجمة والت ويتمان، بعد بودلير ورامبو وكفافيس، رغم أنه كان في مخطط ترجماته قبلهم؟ كيف يمكن تفسير النموذج الفريد للتراجم الذي يقدمه سلَّام؛ فلا يكتفي بطبعة واحدة، بل يذهب إلى كل ما كتب الشاعر أو عنه ويفيد التجربة؟ إنها المثابرة.
“أنت لا تنزل النهر مرتين“. وهكذا لا تقرأ نص رفعت سلام مرتين؛ فكل مرة يتغير شيء أو أشياء؛ ثمة تشكيل يأخذك، ثم معنى جديدٌ كلَّ مرة، كل مرة أنت أمام مرآة، ونافذة. حين تقرأ نصًّا لسلَّام، فأنت أمام تحاورٍ مع نصوص الحياة والتراث، ومع حوار داخلي مع هذا المقول، وحوار مع نفسك. بكلمة: أنتَ مع صوتٍ يخلصُ لخلاصِه. فالنص الناتج من سلَّام هو رحلة بحث ومحاورة واصطدام؛ رحلة لا تتوقف فيها عن التزود، والتغير، والتغيير؛ يمكنني تسمية هذا بأثره على القارئ: الإثراء والتأثر، وبجوهر النص: الثراء، والتأثير.
قف أمام (حجرٍ يطفو على الماء) وأمام ما سبقه وما تلاه؛ ثمة تطور على مستوى الشكل؛ فأنت لأول مرة أمام نصٍّ بصريٍّ، تشعبيٍّ، دائريٍّ. ثم قارن بين هذا الديوان وما سبقه. ورغم عودة الدواوين التالية لما يشبه طريقة الكتابة السابقة له؛ فإنها تأخذ مسارها المجدِّد والمجوِّد، أليس هذا ما نسميه التطور؟
(2)
“من أخصب تخير”.
“من أخصب تحير”.
لتختبر صدق المقولتين بالتطبيق على أي صاحب مشروع مهم، ولنختبر أهمية مشروع فلنجرب عليه هاتين المقولتين؛ فأين تضع يدك، تجد زادًا.. ومتى أردت أن تنشغل بثمرٍ دون سواه، تلقَ قلبًا متحيرًا بين ما في يدك، وما في عينك، وما يتوقع قلبك أن يعثر عليه. إذن فأنت بين زادٍ وأملٍ وشفقةٍ من أن تترك ما لا يُترَك.
ومع رفعت سلام، ستجد أن المقولتين متجسدتان تماما؛ فأنت أمام ناقدٍ يبحثُ عن الدهشةِ، لا ليقبضَ عليها بل ليطلقَها من أجلِ الجمالِ؛ وأنت أمامَ مترجم لا يتوقفُ عن البحثِ عن القيمةِ لينقلَها بتوازنِ القابضِ على جمرةٍ، فلا يفلتها لتحرقَ، ولا يشددُ عليها فتؤلمه. إنه حاملُ النارِ المقدسة. وأنت أمام مؤسسٍ من طرازٍ رفيع؛ فهو يؤسس “إضاءة” لتعيد للمشهد حيويته، ثم يعود بـ “كتابات“، ثم يحلق بـ”المائة كتاب”. أما الدور الأول، فهو السبب في الأدوار السابقة؛ إنه الشاعر الذي كانت لأجله الأدوار الأربعة؛ الشعر الذي يحيا رفعت سلَّام لأجله، مهما اختلف دوره. فالصحافة لتوفير حياة كريمة تسمح للشاعر بأن يكتب بحرية واستقلال، والترجمة – كما يقول – اكتشاف للآخر، ومعرفة المساحات المشتركة. أما النقد، فتؤوله أولى كلمات عناوينه: (بحثًا)؛ وقد أجلت ذكر أحد أسباب بحثه لأقولها هنا، وهي تجاوز الدهشة، بإدهاش أكبر. فالشاعر الذي يقف في سلَّام – متواريًا كأنه غير موجود – يعرف أن مهمته قائمة على التجاوز، وأنه إن أراد أن يكون ذا مكان في عالم الشعر، فعليه أن (يعمر المدن الخربة عمرانًا غير مسبوق، فتصير عرائس ومروجًا وشجرًا يحتاج قطافه للذة؛ لذة المغامرة). أما مشاريعه التأسيسية من مجلات شعرية (إضاءة)، ثم أدبية (كتابات)، ثم ترجمة (المائة كتاب)، فكلها تصب في الاتجاه ذاته: فتح الأفق للفارس القادم بلا نبوءة ولا كهانة ولا أبوية؛ فتح الأفق لـ”صوت الألم في هذا العالم” – الشعر، وفق تعريف سلَّام.
الوفاء لنذر غير مرئي، لا تدركه الحواس أولًا، لكنها تستبينه شيئًا فشيئًا؛ إنه الشاعر الآتي من رحم البراءة| الألم| الأرض| الأساطير| الطير| الرياح؛ حاملًا من التربة| الخبز| الثوب| الأسرار| اللغة| الأقوال؛ ليبدأ رحلته (ريادة الفارس الشعبي) في سفر الهناءة (التغريبة وهجرة النبي) من أجل أن يمنح آلَه: (تعويذة الخصب.. وتراتيل اللقاح المتجدد):
غَرَسنَاكَ فِي تُربَةِ البَرَاءَة.
أطعَمنَاكَ خُبزَ الألَمِ المُوحِشِ،
ألبَسنَاكَ ثَوبَ الأرض.
عَلَّمنَاكَ أسرَارَ الأسَاطِيرِ الخَفِيَّة.
عَلَّمنَاكَ لُغَةَ الطَّيرِ، وَأقوَالَ الرِّيَاحِ الوَثَنِيَّة،
كَي تَبدَأ الرِّحلَةَ فِي سِفرِ الهَنَاءَة.
كَي تَمنَحَنَا تَعوِيذَةَ الخِصبِ، تَرَاتِيلَ اللِّقَاحِ المُتَجَدِّد.
(3)
يمكن للمرءِ أن يكتفي بما يقالُ عن شاعرِ (السبعينيات) – المصطلح لرفعت سلام وسرقه آخرون ادعاءً، ورفضه بعضٌ حينًا ثم حاولوا الانتسابَ إليه، وإلى شعرائه – من غموض وقطيعة متعمدة واتجاه للتغريب. ويمكن له أن يكتفي بما يقولون عن صرامة الرجل وحدته وخشونته؛ ويمكن له ألا يمد يده لما يترجمه سلَّام لأنه يملأ النص بما حوله. لكنه سيكون كمن وقف أمام بيت فاتنة سائلًا عنها امرأة جارها.. ! أما إن قرأه فسيجد صوتًا شبيها بصوت محمد عبد المطلب طالعًا منه: “لا شك أن مثل هذه الخشونة في شعر رفعت سلام كانت تستهدف المواجهة المباشرة. فكما أن هناك الإحياء بالدين؛ فهناك الإحياء بالشعر”.