الشاعر حسن فتح الباب: «الإمتاع والمؤانسة» و«الكون الغامض» وأشعار ابن الرومي وناجي وعلي محمود طه مرتكزات أساسية
بدأت رحلتي مع الكتاب منذ الطفولة الأولى، فقد استهوتني الحروف التي كان المدرسون يكتبونها بخط جميل على السبورة السوداء وكأنها أضواء تنبثق من الظلمات
رحلتي مع الكتابة
بدأت رحلتي مع الكتاب منذ الطفولة الأولى، فقد استهوتني الحروف التي كان المدرسون يكتبونها بخط جميل على السبورة السوداء وكأنها أضواء تنبثق من الظلمات،
وخيل لي أنها كائنات حية يناجي بعضها بعضاً وتناجيني أحياناً، كانت أول حب لي ملأ عليّ حياتي، ولاسيما بعد رحيل أبي وأنا في الثامنة من عمري، وقد تركني وحيداً إلا من أمي وأخي وأختي الأصغر مني، ووجدت العزاء في كراساتي وكتبي فكنت ألتهمها التهاماً حتى الأوراق المكتوبة التي كانت تغلف الطعام الذي نشتريه مثل الفول والشاي والسكر والزيتون والحلاوة الطحينية لأنها كانت فيما تخيلت تحادثني.
في المدرسة الابتدائية بحي شبرا، حيث كان بيت الأسرة ازددت عشقاً للكتب المدرسية لأنني غدوت أكثر فهماً لها ووعياً بأسرارها، وكأنها أوراد المتصوفين أتلوها مثنى وثلاث ورباع لأرتوي كالظامئ من نبعها الرقراق.
وكان أول كتاب غير مدرسيّ قرأته أهداني إياه مدرس اللغة العربية لتفوقي وما زلت أحتفظ به وعنوانه «الكون الغامض» ومؤلفه عالم فلكي إنجليزي اسمه جيمس فريزر. ومنذ قرأت هذا الكتاب شعرت أن عالماً جديداً أعظم من الكرة الأرضية قد فتح ذراعيه لي كي أكتشف الكون وأحلق في السماوات العلا مع الأقمار والكواكب التي تدور حول الشمس، ولا شك أن ترديدي فيما كتبت بعد ذلك من أشعار لأسماء وصفات وصور القمر والنجوم، مرجعه إلى اطلاعي المبكر على ذلك الكتاب. ومن تلك الأشعار القصيدة التي استوحيتها من القمر الصناعي سبوتنيك الذي أطلقه الاتحاد السوفيتي سنة 1957، وكان هذا الحدث أول محاولة لغزو الفضاء وزوال قانون الجاذبية الأرضية، وعنوان هذه القصيدة «أغنية إلى ولدي هشام»، إذ ولد ليلة إطلاق ذلك القمر وفتحه آفاقاً جديدة أمام الإنسان في مجال الكشوف العلمية.
هكذا بفضل كتاب «الكون الغامض» تفتحت أمامي نافذة للإلهام الشعري، إذ أدركت حين قرأته أن ثمة عوالم أخرى، ولما تحققت رحلات الفضاء انبثقت قصائدي تشدو بها ثم توالت الأشعار التي استوحيت فيها الأفلاك والكواكب.
كانت دواوين الشعر وما زالت هي أحب الكتب إليّ، وقد عشقت وأنا في مرحلة التعليم الثانوي دواوين حافظ شاعر النيل وشوقي أمير الشعراء والقصائد التي يضمها كتاب «المنتخب في أدب العرب» الذي ألفه بأجزائه الثلاثة نخبة من الأساتذة وهم الدكتور طه حسين والأستاذ أحمد الإسكندراني وأحمد أمين وعلي الجارم وعبد العزيز البشري وأحمد ضيف، وكان هذا الكتاب مقرراً علينا ضمن برنامج اللغة والأدب في تلك المرحلة. لقد شغفت به حباً ومنه تعلمت فنون البيان والبلاغة والنقد، وعلى منوال قصائده كانت بداياتي الشعرية، ولولاه لما أصبحت شاعراً عمودياً ثم تطورت فكتبت الشعر الحر الذي نسميه الآن شعر التفعيلة، وقد كنت وما زلت أحفظ كثيراً من قصائد ذلك الكتاب لا إعجاباً بها فحسب، وإنما رغبة في الإفادة منها لتجويد أدواتي الإبداعية، ومع بداية الدراسة بالجامعة تأثرت بكتاب عباس محمود العقاد «ابن الرومي حياته من شعره» ولولاه لما أصبحت من النقاد.
وفي مرحلتي الرومانسية استغرقت في قراءة دواوين الشاعر إبراهيم ناجي وأولها «وراء الغمام» والشاعر علي محمود طه في ديوان «الجندول» الذي يتغنى فيه بالحب في مدينة فينيسيا الإيطالية، وكنت أتمنى أن أصبح مثله مهندساً، وديوان «الليالي» للشاعر الفرنسي ألفريد دي ميسيه، وقد قرأته في لغته الأصلية، كما استمتعت بقراءة قصيدة «البحيرة» للشاعر لامرتين تلك التي نوّع على قيثارتها الشعراء العرب وترجمت إلى العربية عدة مرات. قرأت أيضاً ملحمة «الشاهنامة» للشاعر الفارسي الفردوسي في الترجمة العربية التي قام بها الدكتور عبد الوهاب عزام، وبهرتني فاستوحيت الكثير من مشاهدها في شعري.
لقد أفادني كل هذا في تنوع مؤلفاتي بين المسرح الشعري والنقد والدراسات الإسلامية والتي بلغت اثنين وأربعين كتاباً ما بين شعر ونثر، منها عشرة مؤلفات في النقد الأدبي، وكتاب «المنازعات الدولية ودور الأمم المتحدة في المشكلات الدولية»، وهو الرسالة التي حصلت بها على درجة الدكتوراه من كلية الحقوق بجامعة القاهرة، ولي أيضاً ثمانية كتب في الحضارة العربية الإسلامية نشرها مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر والمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية. وكانت المصادفة هي التي قادتني إلى تأليف هذه الكتب، ذلك أنني أثناء إعدادي الرسالة المشار إليها وكانت بعنوان «الدبلوماسية البرلمانية في المنظمات الدولية» عثرت على كنز وهو الدبلوماسية الإسلامية التي بلغت مرتبة عالية فاقت أحياناً الدبلوماسية الحديثة من حيث الامتيازات والحصانات التي يحظى بها السفراء، وكان أولى إصداراتي كتاباً بعنوان «الدبلوماسية الثقافية في الإسلام».
ومن الكتب التي أثرت في تكويني وما زلت أعود إليها حتى الآن كتاب «الإمتاع والمؤانسة» للأديب الفيلسوف «أبي حيان التوحيدي» ففيه عزف جميل على وتر المعاناة التي شقيت بها في سنوات طويلة من عمري مع الكتاب والقلم وسباحتي ضد التيار.
التعليــقــــات
الروائى أحمد الزلوعى، «مصر»، 03/05/2006
دائما نتأكد من أن تراثنا الثقافي العربي زاخر بما يكفي لتكوين عقلية عربية قادرة على الإبداع في مختلف العصور. ها هو صرح الشعر العربي يضرب قواعده لألف و خمسمائة سنة خلت ، ها هو المتنبي لا يزال حيا و متفاعلا . ها هي ألف ليلة وليلة لا زالت تقرأ و تترجم تشعل الانبهار أينما حلت. بالفعل يحتوي تراثنا على مخزون ضخم كما و نوعا يدعو الذين يولون عقولهم شطر الغرب دائما أن ينهلوا من معينه الدفاق أولا، فلا بد لكي نقرأ غوته و تشيكوف و شكسبير بل و اليوت و رامبو و بارت أن نمر من بوابة المتنبي و أبي تمام و جرير و ابن المقفع و المعري و ابن خلدون و ابن عربي و غيرهم من أساطين الفكر و الإبداع العربي العظيم.