فتدخل في حسابها الأموال الربوية التي أخذها اليهود، فتقوم بإرجاع أرضها وحوائطها التي أضاعتها إلى اليهود في تأدية الربا. كان اليهود يدخلون كل ذلك في حسابهم منذ عرفوا أن دعوة الإسلام تحاول الإستقرار في يثرب، ولذلك كانوا يبطنون أشد العداوة ضد الإسلام وضد رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أن دخل يثرب، وإن كانوا لم يتجاسروا على إظهارها إلا بعد حين. ويظهر ذلك جليا بما رواه ابن إسحاق عن أم المؤمنين صفية رضي الله عنها. قال ابن إسحاق: حدثت عن صفية بنت حيي بن أخطب أنها قالت: كنت أحب ولد أبي إليه، وإلى عمي أبي ياسر، لم ألقهما قط مع ولد لهما إلا أخذاني دونه. قالت: فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، ونزل قباء في بني عمرو بن عوف، غدا عليه أبي؛ حيي بن أخطب، وعمي أبو ياسر بن أخطب، مغلسين، قالت: فلم يرجعا حتى كانا مع غروب الشمس، قالت: فأتيا كالين كسلانين ساقطين يمشيان الهويني. قالت: فهششت إليهما كما كنت أصنع، فو الله ما التفت إلي واحد منهما، مع ما بهما من الغم. قالت: وسمعت عمي أبا ياسر، وهو يقول لأبي، حيي بن أخطب: أهو هو؟ قال: نعم والله، قال: أتعرفه وتثبته؟ قال: نعم، قال: فما في نفسك منه؟ قال: عداوته والله ما بقيت «1» . ويشهد بذلك أيضا ما رواه البخاري في إسلام عبد الله بن سلام رضي الله عنه، فقد كان حبرا من فطاحل علماء اليهود، ولما سمع بمقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة في بني النجار جاءه مستعجلا، وألقى إليه أسئلة لا يعلمها إلا نبي، ولما سمع ردوده صلى الله عليه وسلم عليها آمن به ساعته ومكانه، ثم قال له: إن اليهود قوم بهت، إن علموا بإسلامي قبل أن تسألهم بهتوني عندك، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءت اليهود، ودخل عبد الله بن سلام البيت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي رجل فيكم عبد الله بن سلام؟ قالوا: أعلمنا وابن أعلمنا، وأخيرنا وابن أخيرنا (وفي لفظ:) سيدنا وابن سيدنا، (وفي لفظ آخر:) خيرنا وابن خيرنا وأفضلنا وابن أفضلنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفرأيتم إن أسلم عبد الله؟ فقالوا: أعاذه الله من ذلك (مرتين أو ثلاثا) ، فخرج إليهم عبد الله فقال: أشهد ألاإله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله. فقالوا: شرنا وابن شرنا، ووقعوا فيه. وفي لفظ فقال: يا معشر اليهود إتقوا الله، فو الله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أنه رسول الله، وأنه جاء بحق. فقالوا: كذبت «2» . __________ (1) ابن هشام 1/ 518، 519. (2) انظر صحيح البخاري 1/ 459، 556، 561. (1/164)
وهذه أول تجربة تلقاها رسول الله صلى الله عليه وسلم من اليهود، في أول يوم دخل فيه المدينة. هذا كله من حيث الداخلية، وأما من حيث الخارجية، فإن ألد قوة ضد الإسلام هي قريش، كانت قد جربت منذ عشرة أعوام- حينما كان المسلمون تحت يديها- كل أساليب الإرهاب والتهديد والمضايقة وسياسة التجويع والمقاطعة، وأذاقتهم التنكيلات والويلات، وشنت عليهم حربا نفسية مضنية مع دعاية واسعة منظمة، ثم لما هاجر المسلمون إلى المدينة صادرت أرضهم وديارهم وأموالهم، وحالت بينهم وبين أزواجهم وذرياتهم، بل حبست وعذبت من قدرت عليه، ثم لم تقتصر على هذا، بل تامرت على الفتك بصاحب الدعوة صلى الله عليه وسلم والقضاء عليه، وعلى دعوته، ولم تأل جهدا في تنفيذ هذه المؤامرة. وبعد هذا كله- لما نجا المسلمون إلى أرض تبعد عنها خمسمائة كيلو مترا- قامت بدورها السياسي لما لها من الصدارة الدنيوية والزعامة الدينية بين أوساط العرب، بصفتها ساكنة الحرم ومجاورة بيت الله وسدنته، فأغرت غيرها من مشركي الجزيرة ضد أهل المدينة، حتى صارت المدينة في شبه مقاطعة شديدة، قلت مستورداتها، في حين كان عدد اللاجئين يزيد يوما فيوما. إن «حالة الحرب» قائمة يقينا بين هؤلاء الطغاة من أهل مكة وبين المسلمين في وطنهم الجديد، ومن السفه تحميل المسلمين أوزار هذا الخصام «1» . كان حقا للمسلمين أن يصادروا أموال هؤلاء الطغاة، كما صودرت أموالهم، وأن يدالوا عليهم من التنكيلات بمثل ما أدالوا بها، وأن يقيموا في سبيل حياتهم العراقيل كما أقاموا في سبيل حياة المسلمين، وأن يكال لهؤلاء الطغاة صاعا بصاع، حتى لا يجدوا سبيلا لإبادة المسلمين، واستئصال خضرائهم. هذه هي القضايا والمشاكل التي كان يواجهها رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ورد المدينة بصفته رسولا هاديا وإماما قائدا. وقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بدور الرسالة والقيادة في المدينة، وأدلى إلى كل قوم بما كانوا يستحقونه من الرأفة والرحمة أو الشدة والنكال- ولا شك أن الرحمة كانت غالبة على الشدة والعنت- حتى عاد الأمر إلى الإسلام وأهله في بضع سنوات، وسيجد القارئ كل ذلك جليا في الصفحات الآتية: __________ (1) الكلمة الأخيرة لمحمد الغزالي في فقه السيرة ص 162. (1/165)
بناء مجتمع جديد قد أسلفنا أن نزول رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة في بني النجار كان يوم الجمعة (12 ربيع الأول سنة 1 هـ الموافق 27 سبتمبر سنة 622 م) ، وأنه نزل في أرض أمام دار أبي أيوب، وقال: ههنا المنزل إن شاء الله، ثم انتقل إلى بيت أبي أيوب.
بناء المسجد النبوي: وأول خطوة خطاها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك هو إقامة المسجد النبوي. ففي المكان الذي بركت فيه ناقته أمر ببناء هذا المسجد، واشتراه من غلامين يتيمين كانا يملكانه، وساهم في بنائه بنفسه، فكان ينقل اللبن والحجارة ويقول: اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة … فاغفر للأنصار والمهاجرة وكان يقول: هذا الحمال لا حمال خيبر … هذا أبر ربنا وأطهر وكان ذلك مما يزيد نشاط الصحابة في البناء حتى إن أحدهم ليقول: لئن قعدنا والنبي يعمل … لذاك منا العمل المضلل وكانت في ذلك المكان قبور المشركين، وكان فيه خرب ونخل وشجرة من غرقد، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبور المشركين فنبشت، وبالخرب فسويت، وبالنخل والشجرة فقطعت، وصفت في قبلة المسجد، وكانت القبلة إلى بيت المقدس، وجعلت عضادتاه من حجارة، وأقيمت حيطانه من اللبن والطين، وجعل سقفه من جريد النخل، وعمده الجذوع، وفرشت أرضه من الرمال والحصباء، وجعلت له ثلاثة أبواب، وطوله مما يلي القبلة إلى مؤخرة مائة ذراع، والجانبان مثل ذلك أو دونه، وكان أساسه قريبا من ثلاثة أذرع. وبنى بيوتا إلى جانبه، بيوت الحجر باللبن، وسقفها بالجريد والجذوع، وهي حجرات أزواجه صلى الله عليه وسلم، وبعد تكامل الحجرات انتقل إليها من بيت أبي أيوب «1» . __________ (1) صحيح البخاري 1/ 71، 555، 560، زاد المعاد 2/ 56. (1/166)
ولم يكن المسجد موضعا لأداء الصلوات فحسب، بل كان جامعة يتلقى فيها المسلمون تعاليم الإسلام وتوجيهاته، ومنتدى تلتقي وتتالف فيه العناصر القبلية المختلفة التي طالما نافرت بينها النزعات الجاهلية وحروبها، وقاعدة لإدارة جميع الشؤون وبث الإنطلاقات، وبرلمانا لعقد المجالس الإستشارية والتنفيذية. وكان مع هذا كله دارا يسكن فيها عدد كبير من فقراء المهاجرين اللاجئين الذين لم يكن لهم هناك دار ولا مال ولا أهل ولا بنون. وفي أوائل الهجرة شرع الأذان، النغمة العلوية التي تدوي في الآفاق، كل يوم خمس مرات، والتي ترتج لها أنحاء عالم الوجود. وقصة رؤيا عبد الله بن زيد بن عبد ربه بهذا الصدد معروفة. رواها الترمذي وأبو داود وأحمد وابن خزيمة «1» .
المؤاخاة بين المسلمين: وكما قام النبي صلى الله عليه وسلم ببناء المسجد مركز التجمع والتالف، قام بعمل آخر من أروع ما يأثره التاريخ، وهو عمل المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار. قال ابن القيم: ثم آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار في دار أنس بن مالك، وكانوا تسعين رجلا، نصفهم من المهاجرين ونصفهم من الأنصار، آخى بينهم على المواساة، ويتوارثون بعد الموت دون ذوي الأرحام، إلى حين وقعة بدر، فلما أنزل الله عز وجل: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ [الأنفال: 75] رد التوارث، دون عقد الأخوة. وقد قيل إنه آخى بين المهاجرين بعضهم مع بعض مؤاخاة ثانية … والثبت الأول، والمهاجرون كانوا مستغنين بأخوة الإسلام وأخوة الدار وقرابة النسب عن عقد مؤاخاة بخلاف المهاجرين مع الأنصار «2» أهـ. ومعنى هذا الإخاء- كما قال محمد الغزالي- أن تذوب عصبيات الجاهلية، فلا حمية إلا للإسلام، وأن تسقط فوارق النسب واللون والوطن، فلا يتقدم أحد أو يتأخر إلا بمروءته وتقواه. وقد جعل الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الأخوة عقدا نافذا، لا لفظا فارغا، وعملا يرتبط بالدماء والأموال، لا تحية تثرثر بها الألسنة ولا يقوم لها أثر. __________ (1) انظر بلوغ المرام لابن حجر العسقلاني ص 15. (2) زاد المعاد 2/ 56. (1/167)
وكانت عواطف الإيثار والمواساة والمؤانسة تمتزج في هذه الأخوة وتملأ المجتمع الجديد بأروع الأمثال «1» . فقد روى البخاري أنهم لما قدموا المدينة