الاسلاميات

السيرة النبوية فى ضوء القران والسنة ج15 بقلم الشيخ موسى الهلالى

إسكان هاجر وإسماعيل بجبال فاران «1»
ولما وضعت هاجر المصرية «2» إسماعيل داخل السيدة سارة ما يداخل الضرائر من الغيرة، لأنها لم ترزق بولد، وقد تراءى لها أن هاجر بدأت تتعاظم عليها، فصارت تلاحقها بالأذى. فأمر الله خليله إبراهيم أن يذهب بهاجر وابنها إسماعيل إلى واد بجبال فاران، حيث يوجد مكان الكعبة البيت الحرام، وكان هضبة حمراء مشرفة، تطييبا لخاطر السيدة الصابرة سارة، وتنفيذا لما سبق به التقدير الإلهي من بناء البيت، وأن يصير من نسل إسماعيل أمة مسلمة عظيمة، وأن يبعث فيها رسولا من أنفسها، يتلو عليهم من آياته، ويعلمهم الكتاب والحكمة، فأخذهما الخليل وذهب بهما إلى هناك، وترك عندهما جرابا من تمر وسقاء من ماء، ثم عاد، فجرت وراءه هاجر، وهي تقول: إلى من تتركنا يا خليل الرحمن؟ الله أمرك بهذا؟ قال: نعم، فقالت: إذا لا يضيّعنا!! وهذا يدل على إيمانها، وشدة توكلها على ربها، وأنها جديرة أن تكون أما لنبي عظيم، ولأمة عظيمة.

نبع عين زمزم
فلما نفد الماء صار إسماعيل يتمرغ ويتلوى من شدة العطش، فلم تطق أن تراه هكذا، وخرجت تسعى نحو الصفا، فصعدت عليه علّها تجد ماء، ثم نزلت مهرولة إلى المروة، ووقفت تنظر حواليها عسى أن تجد ماء، فلم تجد، ثم عادت إلى الصفا، وهكذا صارت تسعى بين الصفا والمروة حتى أكملت سبعة أشواط، فكان هذا أصلا لفريضة السعي بينهما، ثم نزلت وهي هلعة جزعة أن لم تجد ماء، فسمعت من يناديها ويقول: جاءك الغواث، فصارت ترهف سمعها إلى الصوت وتتسمع، حتى نزل جبريل- عليه السلام- وهو في صورة طائر، فضرب الأرض بجناحه، وقيل بعقبه، فنبعت عين زمزم، فصارت تحوط عليها التراب من شدة الفرح، وتقول لها: زمي، زمي فشربت وشرب إسماعيل حتى رويا، ولم تخف العطش والضّيعة بعدها، وسمعت من يقول لها لا تخافي الضّيعة، فإن ههنا بيتا لله يبنيه هذا الغلام وأبوه، وإن الله لا يضيع أهله!!

حصول الأنس بجرهم ونشأة مكة
ثم مرت بهاجر وابنها رفقة «1» من قبيلة جرهم إحدى القبائل التي نزحت من اليمن، فنزلوا في أسفل المكان الذي بنيت فيه مكة، فرأوا طيرا يحوم «2» حول مكان قريب منهم، فقالوا: إن هذا الطائر ليدور على ماء، إن عهدنا بهذا الوادي ليس فيه ماء «3» ، فأرسلوا رسولا منهم، فإذا هو بالماء، فأخبرهم به، فأقبلوا نحوه وكانت أم إسماعيل عند الماء، فقالوا لها: أتأذنين لنا أن ننزل عندك؟ قالت نعم، ولكن لا حق «4» لكم في الماء عندنا، قالوا: نعم، وقد سرت هاجر، فقد وجدت من يؤنسها، ويزيل وحشتها، فنزلوا، وأرسلوا إلى أهليهم، فنزلوا، وابتنوا بيوتا حتى صارت من ذلك أبيات عدة.

وكان إسماعيل لا يزال غلاما، فلما شب وكبر اختلط بهم، وتعلم منهم العربية حتى صارت له لسانا، فكان أبا للعرب المستعربة.
روى أبو عبيدة قال: حدثنا مسمع بن عبد الملك عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسن عن ابائه قال: أول من فتق لسانه بالعربية المبينة إسماعيل، وهو ابن أربع عشرة سنة «1» ، وتعلم منهم الرمي والقنص، ولما كبر إسماعيل أعجبهم، فوجدوا فيه من الخصال والفضائل ما حببهم فيه، فزوّجوه منهم.

قصة الذبيح
وكان الخليل- عليه السلام- يتعهد إسماعيل وأمه هاجر بين الحين والحين، ويزورهما كلما حن الشوق إليهما، وكان الغلام إسماعيل قد شب عن الطوق، وصار يسعى في مصالحه، وأهلا لمعاونة أبيه، وفي زورة من الزورات رأى الخليل في منامه من يأمره بذبح ولده ووحيده، ورؤيا الأنبياء وحي- كما في الحديث الشريف- فلم يشك الخليل في صدق الرؤيا، ولكن الأمر يتعلق بابنه، وفلذة كبده، فكان لا بد أن يتروّى في الأمر، فرأى مثل ذلك في الليلة الثانية، وقيل: إن ذلك كانت ليلة اليوم الثامن من ذي الحجة فسمي يوم التروية «2» ثم تريث أيضا فرأى مثل ذلك في الليلة الثالثة وقيل إن ذلك كان ليلة التاسع فسمي: يوم عرفة «3» ، فلم يكن بدّ- بعد ثلاث- من امتثال أمر الله والصبر على البلاء، ولكنه رأى أن يعرض الأمر على ولده؛ ليكون أطيب لقلبه، وأهون عليه من أن يأخذه قسرا، أو يبغته فجأة، فعرضه عليه، فكان- كما وصفه الله- حليما، وجديرا بأن يكون رسولا نبيا، فقال:
يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) «4» .

وأخذ الخليل بيد ابنه ووحيده، وخرج به إلى المنحر بمنى، وأضجعه على وجهه، وأخذ السكين بيده، وأمرّها على عنق ابنه، فما قطعت، ولا أثّرت، وحينئذ نودي من السماء: أن يا إبراهيم قد صدّقت الرؤيا، وامتثلت الأمر، وإنا قد فدينا ابنك بما تيسّر لك من كبش سمين، فطلب كبشا، فذبحه مكان إسماعيل، فكانت التضحية سنة باقية في عقبه إلى يوم الدين، واستحق الخليل وابنه إسماعيل أن يكونا مثلين في الاخرين. وأن يكون عليهما السلام من رب العالمين. وإليك القصة كما حكاها الله في القران الكريم، قال سبحانه:
وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ «1» قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ماذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ «2» لِلْجَبِينِ (103) وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ «3» عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ (109) كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111) «4» .

الهوامش
(1) فاران: هي مكة كما يعبر عنها في التوراة.
(2) هي من قرية «أم العرب» ويقال: أم عريك كانت أمام الفرما.
(1) جماعة.
(2) يدور.
(3) هذا يدل على أن مكة لم تكن وجدت بعد.
(4) لا ملك لكم فيه، أما الشرب فنعم.
(1) البيان والتبيين ج 3، ص 21 والمراد من ولد إبراهيم- عليه السلام-.
(2) وقيل لأن الحجاج كانوا يحملون معهم فيها الماء قبل الخروج لأداء المناسك.
(3) وقيل غير ذلك وإنه سمي يوم عرفة لأن ادم وحواء تعارفا فيه في الأرض بعد أن نزلا من الجنة.
(4) الاية 102 من سورة الصافات.
(1) بلغ سنا يسعى فيها في مصالحه، ويعين أباه.
(2) تله أي ألقاه على وجه.
(3) كبش سمين.
(4) الايات 99- 111 من سورة الصافات.

زر الذهاب إلى الأعلى