تشريع الحج على لسان إبراهيم
ولما فرغ الخليل من بناء البيت أمره الله سبحانه أن يؤذّن، ويعلم الناس بالحج، فقال: يا رب، وماذا يبلغ صوتي؟ فقال: يا إبراهيم أذّن وعليّ البلاغ، فوقف الخليل على جبل أبي قبيس «3» وصار ينادي ويقول: «يا أيها الناس، إن الله كتب عليكم الحج فحجّوا، فأجابه كل من كتب الله لهم الحج إلى يوم
القيامة وهم في أصلاب الاباء، أو في عالم الذر، فمن ثمّ كانت مشروعية التلبية: «لبّيك اللهمّ لبّيك، لبّيك لا شريك لك لبّيك، إن الحمد، والنعمة لك والملك، لا شريك لك» ، ومن يومها قد صار الحج فرضا مفروضا إلى يوم القيامة، وقد ذكر الله- تبارك وتعالى- ذلك في الكتاب الكريم واستطرد منه إلى بيان شعائر الحج فقال:
وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ «1» وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29) ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ (31) ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (35) وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها
وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37) «1» .
وقد دعا الخليل عليه السلام ربّه أن يجعل ما حول البيت بلدا امنا، وأن يرزق أهله المؤمنين من الثمرات في هذا الوادي غير ذي الزرع، وأن يبارك لهم فيها قال تعالى:
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126) «2» .
كما دعا الخليل لمكة أن تستمر دار أمن وسلام، وملاذ، وأن يجنبه ربه، وبنيه عبادة الأصنام، وأن يجعل قلوب الناس تصبو إلى سكان البيت ومجاوريه.
وأن يرزقهم من الثمرات، وأن يوفقه وذريته للطاعات، وإقامة الصلوات، قال عز شأنه حكاية لذلك:
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36) رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (38) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ «3»
إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ (39) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ (41) «1» .
وقد استجاب الله دعاء خليله، وأعطاه سؤله، وحقق رجاءه، قال عز شأنه:
وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) «2» .
وقد كان ذلك أمرا سبق به التقدير الأزلي من قبل أن خلق الله السماوات والأرض، ولكن أظهره وشرعه على لسانه نبيه، وخليله إبراهيم
أول من بنى البيت
وقد دلّت الايات القرانية المتواترة التي سقناها إليك، والأحاديث الصحيحة التي رواها البخاري وغيره من أئمة النقل والرواية على أن أول من بنى الكعبة هو الخليل إبراهيم، ومعاونه ابنه إسماعيل- عليهما الصلاة والسلام- وقد كان مكان البيت ربوة عالية مشرفة على ما حولها، معروفة للملائكة، ولمن سبق من الأنبياء، وبقعة مشرّفة معظّمة من قديم الزمان حتى جاء الخليل فأسس قواعده وبناه.
وقد رويت روايات أخرى أغلبها موقوفة على بعض الصحابة والتابعين، رواها أصحاب التواريخ كالأزرقي والفاكهي، وبعض المفسرين والمحدثين الذين لا يلتزمون إخراج الأحاديث الصحاح والحسان، بعضها يفيد أن أول من بنى البيت ادم عليه السلام. وقيل: ابنه شيث، روى عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء قال: «إن أول من بنى البيت ادم وقيل: بنته الملائكة قبله» وعن وهب بن
منبّه: «أول من بناه شيث بن ادم» ووهب من أهل الكتاب الذين أسلموا.
وروى البيهقي في «الدلائل» من طرق أخرى عن عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعا «بعث الله جبريل إلى ادم، فأمره ببناء البيت، فبناه ادم، ثم أمره بالطواف به، وقال له: أنت أول الناس، وهذا أول بيت وضع للناس» «1» .
وقد قال الحافظ، المفسر، المؤرخ ابن كثير في هذا الحديث الأخير: «إنه من مفردات ابن لهيعة وهو ضعيف، والأشبه- والله أعلم- أن يكون موقوفا على عبد الله بن عمرو بن العاص، ويكون من الزاملتين «2» اللتين أصابهما يوم اليرموك من كتب أهل الكتاب» وهذا ما أرجّحه وأميل إليه، ومهما قيل في ثبوت هذه الروايات، وما ماثلها فهي لا تقوى على معارضة ما دل عليه القران المتواتر، والسنة الصحيحة ويعجبني في هذا ما قاله الحافظ ابن كثير في بدايته، قال:
«ولم يجىء في خبر صحيح عن معصوم أن البيت كان مبنيا قبل الخليل عليه السلام، ومن تمسّك بهذا بقوله: «مكان البيت» «3» فليس بناهض، ولا ظاهر لأن المراد مكانه المقدّر في علم الله المقرر في قدرته، المعظّم عند الأنبياء موضعه من لدن ادم إلى زمان إبراهيم» «4» .
ولا ينافي ما رجحناه وذهبنا إليه ما روي «أنه ما من نبي إلا وقد حج البيت» وما رواه أبو يعلى في مسنده بسنده عن ابن عباس قال: حج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلما أتى وادي «عسفان» قال: «يا أبا بكر أي واد هذا؟» قال:
هذا وادي عسفان، قال: «لقد مرّ بهذا نوح وهود وإبراهيم على بكرات «5» لهم
حمر، خطمهم «1» الليف، وأزرهم «2» العباء، وأرديتهم النّمار «3» ، يحجون البيت العتيق» ، وما رواه الإمام أحمد في مسنده بسنده عن ابن عباس قال: لما مرّ النبي صلّى الله عليه وسلّم بوادي عسفان حين حج قال: «يا أبا بكر، أي واد هذا؟» قال:
وادي عسفان، قال: «لقد مرّ به هود، وصالح- عليهما السلام- على بكرات حمر، خطمها الليف، وأزرهم العباء، وأرديتهم النّمار، يلبّون يحجون البيت العتيق» إسناده حسن، لأن المقصود الحج إلى محله، وبقعته المعروفة، وإن لم يكن ثم بناء «4» .
الهوامش
(1) الايات 127- 129 من سورة البقرة.
(2) الايتان 96- 97 من سورة ال عمران.
(3) جبل بمكة مشرف على الكعبة.
(1) وسخهم وشعثهم.
(1) الايات 26- 37 من سورة الحج.
(2) الاية 126 من سورة البقرة.
(3) كان الدعاء الأول قبل بناء البيت، وقبل أن تكون مكة. وأما هنا فكان بعد أن بني البيت ووجدت مكة، وهذا هو السر في أنه جاء منكرا في الأول ومعرفا في الثاني.
1) إبراهيم 35- 41.
(2) الاية 125 من سورة البقرة.
(1) فتح الباري، ج 6 ص 310؛ تفسير ابن كثير والبغوي، ج 1 ص 316، ط المنار.
(2) الزاملة: البعير الذي يحمل عليه المتاع، أي حمل بعيرين من الكتاب، وهذا من الأسباب التي جعلت بعض الرواة لا يروي عنه تحوّطا، فمن ثمّ جاءت مروياته أقل من مرويات أبي هريرة، مع أنه كان أكثر من أبي هريرة حديثا لأنه كان قارئا كاتبا.
(3) كما في الاية 26 من سورة الحج.
(4) البداية والنهاية، ج 1 ص 163؛ وج 2 ص 299.
(5) بكرات: جمع بكرة: الناقة الفتية القوية.