كتب – علي تمام أعاد منتصر الزيات، مقرر حملة الدفاع عن المحامين «أطلقوا سراحهم»، نشر مقال له عن ثورة 23 يوليو، نشر عام 2003 بصحيفة الحياة اللندنية.
وقال «الزيات» عبر صفحته على «الفيس بوك»: «فور نشره اتصل بي المستشار مأمون الهضيبي رحمه الله معترضا وغاضبا، مقررا خلافنا مع عبد الناصر كان شاملا ولم يكن سياسيا كما ذهبت».
نص المقال:
ثورة يوليو 52 وثوارها
عام بعد نصف قرن من الزمن مر في هدوء على ذلك الحدث الذي غير مجرى الحياة السياسية والاجتماعية في مصر، بل في العالم العربي، فالشعارات التي رفعتها نخبة من الضباط “الأحرار” في الجيش المصري بزعامة البكباشي جمال عبد الناصر ارادت إحداث إصلاح سياسي بمقدار ما توخت تغييراً جذرياً في بنية المجتمع المصري.
اعتمد إيقاع التأريخ لتلك الحقبة المهمة من تاريخ مصر على جدل ارتبط بمحورين رئيسيين، أولهما شخصية زعيم الضباط الأحرار، فمعظم المؤرخين والمعاصرين للأحداث يرى في جمال عبد الناصر الزعيم الحقيقي لذلك التنظيم، وأن تصدر اللواء محمد نجيب للمشهد كان لحاجة الضباط الأحرار إلى “كبير ذي وجاهة” يقنع الكافة بجدية تحركهم وتأثيراته، وكانت لشخصية اللواء نجيب بين الضباط جاذبية بعدما قاد جولة حاسمة في المواجهة مع القصر عبر انتخابات نادي الضباط، والشيء نفسه يثار عند محاولة تضخيم دور السادات من مجرد تلاوته لبيان الثورة.
لكن الاكثر إثارة للجدل بشأن ما جرى ليلة 23 تموز يوليو 1952 هو الخلاف في كنهه، ففريق يرى ما حدث حركة انقلابية قام بها ضباط على ظهر الدبابات ومن فرق المشاة، كما يراها أكاديمياً انقلاباً عسكرياً بالمفهوم الصحيح الذي يتصادم مع طبيعة الثورات التي تغير المجتمعات بانتفاضة الشعوب على النحو الذي جرى في فرنسا في القرن الـ18وفي ايران أواخر القرن الماضي عندما أسفر تحرك جماعي للشعب عن الثورة الإسلامية بزعامة آية الله الخميني.
غير أن كثيرين أيضاً يرون في ما جرى ثورة بكل المقاييس، وإذا كان الخميني استطاع تحريك الشارع قبل أن تهبط طائرته في مطار طهران، فإن ناصر حرك الشارع العربي قاطبة قبل أن يمسك بالسلطة، ولولا خروج الشعب الى الميادين والطرقات مؤيداً الضباط الأحرار لما استمرت التحولات التي أرادتها حركة الضباط وأهدافها الستة حتى صارت معالم تغيير جذري في بنية المجتمعات العربية، فالحركة التي تستطيع أن تحول بنية مجتمع هي الأجدر بوصف الثورية من غيرها التي لم تغادر حدود بلدها الجغرافية.
لكن المحور الثاني في تقويم حركة يوليو 52 لا يقل أهمية عن سابقه، وهو يتعلق بحجم التحولات التي وقعت ومقدار التجاوزات التي رافقتها، ما يعنى بالمعايير الحسابية معدلات الربح والخسارة. وفي هذا السياق يبرز ملف انتهاكات حقوق الإنسان وكلفته لذاكرة المصريين والتهابات العصب المزمن في قلوبهم.
يصعب تقويم هذا المحور بمعزل عن أمور استراتيجية أخرى ترتبط به، منها مسألة التحالفات التي اعتمد عليها الضباط الأحرار لتثبيت أمور الحكم هي أولى العناصر التي ينبغي التدقيق فيها. فعلاقات الضباط الأحرار مع الإدارة الأميركية في تلك الفترة تبقى سراً كهنوتياً لم تفك طلاسمه بعد، والقليل الذي تسرب عنها لم يشف غليل الباحثين والمراقبين خصوصاً أنه حوّل اهتمامات الإدارة الأميركية من الاعتماد على مصر كحليف رئيسي في المنطقة إلى دعم الوجود الصهيوني بها.
قرأنا بعد رحيل السادات عن لجنة اعتمدها النظام المصري لتقويم وتأريخ تلك الحقبة الخصبة من تاريخ مصر، غير أن أعمالها قبرت وتم وأد الفكرة في مهدها.
ومن التحالفات التي غلّفت علاقات الضباط الأحرار بكثير من الجدل والغموض علاقاتهم بالإخوان المسلمين في تثبيت وجودهم ودعم أركان الثورة أو الحركة. يرتبط هذا المشهد خصوصاً بمناظر دامية في ملف انتهاكات حقوق الإنسان الذي اتسع رتقه فصعب التعتيم عليه كما جرى بعد هزيمة حزيران يونيو 67 وما كشف عنه من وقائع قضايا الفساد والانحرافات في أجهزة الحكم وأبان حجم الصراع الخفي في الكواليس بين رموز المدرسة الناصرية لسنوات طويلة قبل أن تحل قارعة 67 ويصبح لزوم هذه الانتهاكات يرتبط بحاجة الوطن استزادة لا معنى لها. كما أن تمرير التجاوزات التي حدثت لـ”الإخوان” لا يمكن تصنيفه في إطار الصراع السياسي اللازم بين الثورة وأطماع الإخوان في السلطة.
يبقى أن نشير إلى أن حجم الإنجازات التي تحققت كان كبيراً، خصوصاً في انهاء الإقطاع واعادة الاعتبار للمواطن في مجالات التعليم والتوظيف، كما هو الشأن أيضاً في تأميم قناة السويس وبناء السد العالي ومجموعة من المشاريع الاقتصادية الإنتاجية العملاقة التي لا تزال حتى اليوم رافداً مهماً من روافد الحياة الاقتصادية رغم سياسات الخصخصة وبيع القطاع العام.
أما جمال عبد الناصر فيبقى علامة مهمة في تاريخ مصر الحديثة يمكن أن يختلف الناس حوله بالضرورة طبقاً لاختلافاتهم الأيديولوجية أو الفكرية أو المذهبية، لكن النقطة التى يقف عندها الجدل أنه كان “نظيفاً” مؤمناً بأفكاره مطبقاً لها، مات فقيراً لم يتربح من السلطة. كان ديكتاتورا.. لكنه كان أيضاً وطنياً!