عبد الرازق أحمد الشاعر
حين تكون ثريا جدا، لدرجة أنك لا تهتم إن سقط من جيبك شيك بمئة ألف دولار، ولا تنحني لالتقاطه لأنك في الطريق إلى فندق قريب لتوقيع صفقة بملايين الدولارات مع أحد العملاء، فهذا لا يعني أنك تستطيع أن تتجاهل ذبابة لا تكف عن التنقل بين حاجبك الأيمن وأرنبة أنفك في رتابة مزعجة حتى ولو كنت تتحدث إلى وكيل سفرياتك لتحدد موعد إقلاع طائرتك الخاصة لاستيراد صفقة ببضعة ملايين أخرى.
فهناك أمور ملحة وإن كانت غير هامة، كرنة هاتف أثناء اجتماع طارئ أو طرقة مفاجئة على بابك وأنت تعصر رأسك لإيجاد نهاية مناسبة تليق ببطل روايتك الأخيرة. فالحياة لا تكف عن إزعاجنا وتشتيت انتباهنا بين الحين والآخر بقصصها التافهة وأحداثها المملة.
وهناك أشخاص يقومون بدور ذبابة الروث الذهبية التي لا تكف عن فرك أطرافها القذرة فوق حواجب الفلاحين وشحمات آذانهم المترهلة كلما هموا برفع الفئوس في الهواء أو جز أعواد الذرة بمناجلهم الصدئة.
صحيح أنهم مفيدون جدا في تحليل روث الأخبار ونقل سفاسف الأمور، لكنهم يظلون مزعجين جدا بطنينهم الفارغ وسفسطاتهم البلهاء وبذاءة مجالسهم.
فإذا ابتلاك الله بواحد من هؤلاء يا عزيزي القارئ، فبادرهم بالهجوم، وباغتهم بالتحدث عن شأن علمي أو ثقافي أو ديني.
لا تتحدث إليهم عن آخر مباراة فاز فيها ليفربول أو هُزم فيها الزمالك. ولا تبدأ بالحديث عن آخر ألبوم للفنان عمر دياب أو آخر أغنية لأنغام.
ولا تجاريهم في التحدث عن ظلم الحكام وشظف العيش وضيق ذات اليد وارتفاع الأسعار وزيادة المرتبات، وإلا فإنك ستكون قد فتحت على نفسك بابا من أبواب التفاهة لن ينقذك منه جرس إنذار أو حريق في منزل مجاور.
لا تسمح لأحد يا صديقي باستعارة أذنيك ليبول فيها.
ولا تجعل من فالوبك مرحاضا يلقي فيه التافهون بمخلفات آرائهم وسقط حديثهم، فأغلب هؤلاء الذين يتسيدون مجالس الرجال لا يستطيعون التفوه برأي أو مشورة أمام نسائهم، ولا ينقلون لك إلا أخبارا تتداولها زوجاتهم على موائد العشاء، وأغلبها قصص مشينة عن فلانة التي تركت زوجها وفرت مع عشيقها الذي يصغرها بعشر سنوات،
أو عن ذلك الجار البخيل الذي لا يترك لزوجته أكثر من عشر جنيهات في اليوم والليلة لتدير بها شئون المنزل.
فإذا رآك لا تحب أحاديث النميمة حدثك عن الكرة أو الفن أو حدثك في السياسة والدين وعلم الفلك.
وفي النهاية، لا تخرج من أحاديثة البائسة المكرورة المملة إلا بذنوب لا تحصي وضيق في الصدر ورغبة في التقيؤ.
والعجيب في أمر الرجل الذبابة أنه يرى الملل في عينيك رضا، والبؤس على محياك استحسانا، والصمت المخجل أمام لسانه الذرب إعجابا ودهشة.
ورغم أنه يعلم يقينا أنه قد لاك حديثه مرات ومرات أمام شخصك التعس، إلا أن صمتك يغريه، وحلمك يطغيه، فلا يكف عنك وإن تجاهلت نصف كلامه وأغمضت أذنيك عن النصف الآخر.
وهو لن يتركك تقرأ مقالا عن اختراع جديد للسرطان أو عما يتعرض له مسلمو الإيغور في الصين أو مسلمو الروهينجا في أراكان، ولن يتركك لتكمل وردك أو تحضر درسا لطلابك باستخدام تقنية حديثة. هو يأبى إلا أن يجعلك ذبابة مثله، تحط حيث يحط وتحمل في أطرافك ما يحمل من روث.
المشكلة أن أمثال هؤلاء يتواجدون في كل مكان تضع فيه قدميك، فهم يملأون الأسواق والمحلات والمكاتب والمرافق ووسائل المواصلات.
المزعج في الأمر أن هؤلاء التافهين قد عرفوا طريقهم نحو منصات التتويج ومجالس الرأي ومناصب القرار.
وهم يتكاثرون كالذباب في كل مؤسسات الدولة ومفاصلها الفاعلة، ويضمون إليهم كل يوم حشدا من أقاربهم ورفاق تفاهتهم الذين يتحدثون كما يتحدثون ويفسدون كما يفسدون.
والحقيقة أن مؤسساتنا العلمية والثقافية والدينية والتوعوية لم تعد بمنجى من أمثال هؤلاء، وهو ما ينذر بكارثة ماحقة على المدى القريب إن لم يتغمدنا الله برحمة من عنده أو بزلازل وحمم لن تأتي على فصيلة الرجل الذبابة وحدها.