فرضت تطورات الأزمة السورية تباينات مهمة في المواقف، الإقليمية والدولية، حول طريقة التعامل مع محاور الأزمة، وبمرور الوقت تحول هذا التباين تناقضا تاما، انعكس على مسار الأزمة حتى وصلت إلى صراع مفتوح في الداخل ادت فيه بعض الأطراف دوراً مهماً، وتدخلت أخرى بالوكالة، وأصبحت المخاوف، التي طالما راودت تلك القوى الإقليمية، واقعاً تعيشه شرائح الشعب السوري كافة ويعيشه محيطها الإقليمي من اقتتال داخلي، وحرب أهلية امتدت الى كل بقاع سورية، بل وحرب مذهبية قسمت المنطقة بين سنة وشيعة، وفي هذا الشأن توضح المقالة الدور الايراني وتأثيره على مسار تطور الأزمة السورية.
بعد نجاح الثورة الإيرانية عام 1979 ارتبطت طهران ودمشق بعلاقات ستراتيجية على مدار أربعة عقود، مثل نظام دمشق خلالها الجسر الذي تعبر منه الجمهورية الإسلامية إلى العواصم العربية، مثل بيروت وبغداد والقدس، وتدعم بعض الفصائل الموالية لها لتحقيق أهدافها في تصدير الثورة الإسلامية وقيادة العالم الإسلامي، وبالتالي شكل الحفاظ على نظام دمشق أهم ركائز طهران، في تحقيق ستراتيجيتها والتمدد داخل العالم العربي، واعتبرت الجمهورية الإسلامية محاولة إسقاطه مؤامرة أميركية – خليجية هدفها الأساسي إضعاف دور طهران الإقليمي، وهو ما سيمنع تحقيق حلم الإمبراطورية الفارسية، لذلك تواصل الدعم الإيراني على مدار سنوات الأزمة رغم الخسائر الفادحة وما تتكبده طهران من تداعيات سلبية بسبب التمسك بنظام دمشق، وما يترافق مع ذلك من دعم مالي، وتزويد بالسلاح، ثم تطور هذا الدعم بإشراك عناصر الحرس الثوري الإيراني مباشرة في عمليات القتال.
ومع حلول 2013 أصبح من الواضح أن الجيش السوري غير قادر على حسم هذه الحرب من دون مساعدة خارجية، صحيح أن لدى نظام الأسد جيشاً كبيراً ومسلحاً جيداً، إلا أنه مدرب لخوض الحروب التقليدية، وأثبتت الأحداث قلة فعاليته في قتال الشوارع الذي تتطلبه الأزمة السورية.
وخلال سنوات عدة قدمت طهران دعماً هائلا لدمشق، مما كان له تداعيات سلبية، وتسبب في أزمة اقتصادية داخلية حادة، ناهيك بازدياد أعداد القتلى من الحرس الثوري وعناصر “حزب الله”، وهو ما يتطلب دفع تعويضات باهظة لأسر القتلى من الخزينة الإيرانية، وترافق ذلك مع العقوبات الأميركية المشددة التي تعرضت لها ايران نتيجة الإصرار على البرنامج النووي، والتي زادت من التدهور الاقتصادي والاجتماعي وبخاصة بعد إيقاف الصادرات النفطية وتجميد أموال ايران في الخارج.
واخيراً عمت الاضرابات المدن الايرانية كافة احتجاجا على التدهور الاقتصادي، وما ترافق معه من بطالة وغلاء الأسعار، ورفع المتظاهرون شعارات استهدفت بشكل مباشر المرشد علي خامنئي الذي اتهموه بالفشل في معالجة الأزمات الاقتصادية، لاسيما بعد ارتفاع سعر صرف الدولارالاميركي في أسواق العملات، وهي المرة الأولى التي تصل فيها العملة الايرانية إلى هذه القيمة المتدنية.
رغم الاستثمار في مشروع بقاء نظام دمشق هو استثمار خاسر، ومرهق اقتصادياً وعسكرياً الا أنه مربح سياسياً لأن سقوطه سيشكل تداعيات سلبية على التمدد الإيراني في لبنان والعراق والمنطقة، باعتبار دمشق هي البوابة الجيوسياسية، ولا ننسى أن الازمة السورية كانت أهم أوراق طهران في ابتزاز الغرب مقابل البرنامج النووي الإيراني.
وفي السياق ذاته لعبت طهران على كل التناقضات، فهي لم تتخلَّ عن شعورها القومي المحلي، بل حاولت أن تنشر الثورة الشيعية في عالم عربي معظمه من السنة، إضافة لذلك اشترت السلاح من إسرائيل في ثمانينيات القرن الماضي، وفتحت قنوات على إدارة الرئيس رونالد ريغان، وتواطأت على الاحتلال الأميركي لأفغانستان عام 2001، وساهمت في سقوط العراق عام 2003، كما لم تحفز حلفاءها داخل بغداد على الثورة ضد واشنطن ” الشيطان الأكبر” كما تلقبه.
ولم تقتصر علاقة إيران بسورية على بسط نفوذها فقط إلى قلب الشرق الأوسط، بل التأثير في مجريات الصراع العربي- الاسرائيلي من خلال دعمها الواسع للمجموعتين الاسلاميتين المناوئتين لإسرائيل، وهما “حزب الله” في لبنان و”حماس” في الأراضي الفلسطينية.
ومع اشتداد وطأة المعارك داخل سورية وازدياد حالات الانشقاق في صفوف الجيش النظامي، والتفوق النسبي لبعض فصائل المعارضة، اضطرت طهران للضغط على “حزب الله” اللبناني للمشاركة في القتال، وإنقاذ نظام دمشق الذي يتهاوى سريعاً، رضخ الحزب للضغوط الإيرانية رغم أن مشاركته تتعارض مع ميول التركيبة الديموغرافية اللبنانية، كما انها ستؤدي لتحويل ستراتيجية الحزب من حركة مقاومة مشروعة ضد الاحتلال الإسرائيلي إلى ميليشيا مرتزقة تحارب خارج أراضيها بغية احتلال أراض سورية، وهو ما أسقط المظلة السياسية العربية التي كانت ترافق الحزب في صراعه السابق مع إسرائيل.
في البداية، برر كل من إيران و”حزب الله” دعمهما للأسد بحجة حماية المقامات الشيعية، وهو شأن يتعاطف معه الشيعة في أنحاء العالم كافة، ويتيح استمرار تدفق الدعم الإيراني لنظام دمشق رغم الخسائر الفادحة التي منيت بها ايران، فهي تعتبر أن الأزمة هي صراع إرادات بينها وبين دول الخليج، إضافة الى ذلك حرص إيران أن يكون لها دور في عملية الانتقال السياسي ومنع أي نظام معارض لطهران من أن يتولى مقاليد الحكم مستقبلاً في سورية.
كما أنها ترسل رسالة مفادها أن أي مبادرة لحل الأزمة السورية لا بد وأن تمر عبر طهران، وأن أي تجاهل لها سيؤدي لفشل تلك المبادرات، وأي عمل عسكري، غربي أو إقليمي، ضد النظام بدمشق سيواجه برد فعل عنيف من طهران، ذلك لأن سورية هي جسر التمدد الإقليمي لإيران. رغم أن الشراكة بين دمشق وطهران هي شراكة ستراتيجية أكثر من تعاون متبادل بين دولتين، لكن هناك تناقض إيديولوجي كبير، فإيران جمهورية إسلامية حكمها ثيوقراطي، والحكم السوري هو نظام بعثي علماني، إلا أن العداء المشترك لصدام حسين في الثمانينيات من القرن الماضي، والخوف من الولايات المتحدة وإسرائيل كلها أسباب ساعدت على دعم وتوثيق العلاقة بينهما.
مما لا شك فيه أن إيران تشعر بقلق بالغ إزاء الآثار الجيوسياسية في حال تغيير النظام في سورية، فالأغلبية الساحقة من السوريين هم من العرب السنة، والتخوف من سقوط نظام دمشق ووصول نظام سني طائفي معاد لإيران الشيعية، ومنحاز للقوى الإقليمية المعادية، وبخاصة المملكة العربية السعودية، كل هذه العوامل دفعت إيران لدعم نظام الأسد بقوة.
فقد دعمت إيران النظام السوري مادياً، حيث ضخت عشرات المليارات من الدولارات، من أجل دعم وحماية النظام من السقوط، كما ضمنت استمرار النفط إلى سورية وبكميات كبيرة، ودعمته سياسياً، فقد سخرت إيران كل علاقاتها الديبلوماسية وإمكانياتها الإعلامية للدفاع عن النظام السوري، وترويجها أن ما يحدث هو مؤامرة تستهدف النظام الذي يتعرض لهجمات من جماعات إرهابية وتكفيرية، فيقول وزير الخارجية الإيراني:” لولا دعمنا للنظام السوري لوجدنا “داعش” يحكم دمشق”، علاوة على دعمه عسكرياً من خلال إمداد النظام بجميع أنواع الأسلحة، ناهيك بتواجد عناصر الحرس الثوري في شوارع دمشق، فوفقاً للتقارير فإيران هي من تقود المعارك وتوجه الجيش النظامي السوري.
وقد نتج عن التدخل العسكري لـ”حزب الله” وإيران، مجازر وجرائم ضد الإنسانية وفق تقرير لجنة التحقيق الدولية في سورية، لا سيما في القصير، إضافة الى سياسة التهجير القسري للمدنيين التي اتبعت في كثير من البلدات السورية، وتحدث التقرير عن استخدام “حزب الله” صواريخ محمولة شديدة الانفجار تؤدي إلى خسائر بشرية كبيرة وتحدث دماراً هائلاً في المباني.
تلك الممارسات أدت الى ازدياد وتيرة الهجرة بسبب اعتماد النظام السوري وحلفاؤه (إيران و”حزب الله”)، على سياسة العقاب الجماعي من دون التفرقة بين المسلحين والمدنيين.
ختاماً: أدى تضخم الدور الايراني في الأزمة السورية إلى تعثر العملية التفاوضية والتسوية السياسية برمتها، حيث استمرار العنف والعنف المضاد كان أهم أسباب فشل التسويات، كما كان سبباً في انتشار التطرف؛ بسبب نزوح المهاجرين، وتزايد نفوذ الجماعات الجهادية على الحدود، ونظراً الى عدم قدرة النظام السوري الحفاظ على سيادة الدولة والسيطرة على حدوده انتقل العنف الطائفي والفكر الجهادي إلى دول الجوار السوري، وتحولت الأزمة السورية من صراع داخلي إلى أزمة إقليمية معقدة.