الصراعات تهدد بقاء الدول العربية
في ظل منعطف خطير يمر به النظام الرسمي العربي، وفي ظل محنة حقيقية تواجه الشعوب العربية، تأتي ظاهرة الحروب الأهلية وهي الأولى من نوعها في العقود الأخيرة، وقد امتدت إلى الكثير من الدول، بسبب مزيج متشابك من الدوافع والمتغيرات، بعد أن عجز العالم العربي عن تأسيس الدولة الحديثة على غرار النموذج الأوروبي. وعلى رغم أن هذا النموذج حمل في طياته نتاج ثورة ثقافية كبرى في الدول الأوروبية نجحت فيها هذه الثورة في الفصل التام بين النصوص المقدسة وسلوك الدولة في الشأن السياسي والاقتصادي، وفي المقابل نجد الدول العربية ما زالت تعاني أزمة اندماج وطني تتفاقم وتهدد بزوال بعض الدول أو تقسيم وتفتيت البعض الآخر، وذلك بفعل التخطيط العشوائي للحدود، كما جاء في اتفاقية سايكس – بيكو، ما أدى إلى عدم تطابق الحدود السياسية مع الحدود السكانية في معظم تلك الدول، فهناك الكثير من المذاهب والإثنيات والطوائف داخل حدود الدولة الواحدة، وهو وضع فشلت معظم النظم الحاكمة في العالم العربي في التعامل معه بحكمة وفاعلية، ما اضطر جماعات كثيرة شعرت بأنها محرومة للجوء إلى العنف المسلح، إما لتحسين وضعها في عمليتي توزيع الثروة والمشاركة السياسية في الدولة، وإما للانفصال عنها، كما حدث في جنوب السودان، وفي الوقت نفسه وقف المجتمع الدولي في الكثير من الحالات عازفاً عن التدخل في تلك الصراعات، إما بسبب ضعف الأهمية الاستراتيجية للدولة وإما نتيجة مصالح بعض الدول الكبرى وإما بسبب قصور في منظومة الأمن الدولي، كما هي الحال في سورية. غالباً ما تكون الدولة في حال استقرار في ظل ازدهار اقتصادي وخطط تنموية متوازنة، فتكون قادرة على تجسيد ترابط الجماعات المختلفة، وعدم المساس بالتعددية الإثنية والثقافية. وهو ما لم يحدث في المجتمعات العربية. فقد أصبحت الحدود تحوي داخلها جماعات إثنية مختلفة لم تتفاعل تفاعلاً إيجابياً، ولم تنصهر داخل الحدود الحديثة للدولة، وتكرست من خلال ذلك حالات التمرد ورفض الانصياع لهيكل الدولة الحديثة، بخاصة في حال تولي أحد أفراد تلك الجماعات السلطة، وهو ما يقابل بالرفض من الجماعات الأخرى ويؤدي إلى حالات من التمرد، ثم تتطور الأمور إلى صراعات داخلية ومواجهات دموية تؤدي إلى مقتل الآلاف وتشريد الملايين. وتتعدد التعريفات الخاصة بمفهوم الصراع الداخلي، فمنهم من يعرّفه بأنه «يحدث داخل حدود دولة واحدة بالأساس، بصرف النظر عما إذا كان لذلك الصراع امتداد خارج حدود تلك الدولة». ومن أهم أنصار ذلك الاتجاه كارل دويتش الذي يقول:«في حالة الصراع الداخلي، فإننا نركز بالأساس على الجسد الداخلي للدولة، ومن ثم نقبل حدود الدولة أو الوحدة السياسية محل الصراع باعتبارها شيئاً غير قابل للتغيير». وغالباً ما ينشأ الصراع حينما تختلف المصالح بين شخصين أو أكثر أو مجموعة وأخرى داخل دولة ما وينفجر الصراع ثم يتحول إلى حرب أهلية إذا توافر دعم خارجي لجماعة أو أكثر من المشاركين فيه من دول الجوار، وتلك أبرز التحديات التي تواجه الجسد العربي المترهل، والتي كانت أهم تداعياته: 1- فشل الدول في الأنظمة الجمهورية بالحفاظ على سيادتها وهيبتها داخلياً وإقليمياً ودولياً، وأبرز النماذج الفاشلة اليمن وليبيا وسورية والعراق التي أصبحت فيها الدولة غير قادرة على بسط نفوذها على كامل أراضيها وتوفير الحماية لمواطنيها. 2- تراجع الانتماء الوطني وبروز الانتماء الفئوي أو القبلي، ما يضعف مكانة الدولة وسيادتها ويشجع على تفتتيها، فغالبية المجتمعات العربية تُعاني من نزاعات طائفية ومذهبية وعرقية، لا سيما في اليمن وليبيا وسورية والعراق، في الوقت الذي أصبحت الانتماءات السابقة على تكوين الدولة الحديثة هي الحاكمة، حيث باتت القبائل والعشائر تسيطر على المشهدين اليمني والليبي بصورة مطلقة، في شكل أصبح معه منطق القوة والاحتكام إلى السلاح هو الأساس بين المتناحرين، كما كان يحدث في العصور الجاهلية من نزاعات على أماكن الرعي والماء، من دون الاعتداد بالعدالة أو الاكتراث للقانون. 3- تؤدي الصراعات الداخلية إلى تهجير السكان في شكل قسري، هرباً من تداعيات القتال، وإقامتهم في معسكرات للاجئين خارج البلاد، أو معسكرات للنازحين داخل بلادهم، الأمر الذي يؤدى إلى اختلال التوازنات الإثنية في دول الملجأ، وربما إلى إشعال صراعات جديدة فيها، كما هي الحال في لبنان. 4- كما ينجم عن الصراعات الداخلية أشكال عدة من انتهاك حقوق الإنسان الأساسية، حيث يتعرض السكان في الدول المنكوبة بهذه الصراعات للتعذيب والاغتصاب وزواج القصر والاعتقال التعسفي والنفي. 5- تحول الصراع المسلح في سورية إلى منطقة جذب لعناصر الجماعات المتطرفة في العالم، ما يشكل قنبلة موقوتة بعد انتهاء الصراع مع نظام بشار الأسد، تقضّ مضاجع الأنظمة العربية. 6- منح التشرذم العربي فرصة لبعض الدول الإقليمية للتدخل في شؤون عدد من البلدان العربية والعبث بمقدراته، وهو ما يزيد حال الارتباك وعدم الاستقرار، ومن ثمَّ انتشار عملية استنساخ النماذج الفاشلة للدول العربية. ويُمثل الدعم الذي تقدمه كل من تركيا وإيران، أبرز الأطراف الإقليمية، للأطراف المتصارعة في سورية مثالاً حياً على ذلك في إطالة أمد الصراع للقضاء على البقية الباقية من الدولة السورية، فقد فتحت أنقرة معسكرات تدريب لفصائل المعارضة داخل الأراضي التركية وكذلك سمحت بتدفق المقاتلين الأجانب عبر أراضيها إلى الداخل السوري، في حين أقدمت إيران على إرسال بعض كتائب «الحرس الثوري»، إضافة إلى المساعدات العسكرية للنظام السوري، ما أدى إلى تكريس نوع من التوازن العسكري، وهو ما يعوق الوصول حتى الآن إلى أي تسوية ويخدم المصالح الإسرائيلية. أخيراً، فإن الأمن القومي العربي في حاجة إلى استراتيجية عاجلة للحفاظ على ما تبقى من الجسد الهزيل، كما أنه في حاجة إلى بلورة العلاقة بين الدولة والمجتمع في بعض دول المنطقة وإلى مزيد من الشفافية بين الحكام والمحكومين طبقاً للعقد الاجتماعي الذي يحتم رؤية شاملة لإدارة هذه العلاقة، لأن أي خلل في هذه العلاقة سيؤدي إلى حال من الانسداد، خصوصاً مع عدم قدرة كل الأطر الاقتصادية والسياسية الراهنة على تلبية احتياجات المواطن العربي، وهو ما سيؤدي في النهاية إلى زيادة معدلات العنف المتبادل وإلى نشأة جيل جديد راديكالي يصعب السيطرة عليه ويساهم في توفير بيئة خصبة للإرهاب وانتقال الفشل واستنساخه من دولة إلى أخرى.
د.علاء عبدالحميد كاتب ومحلل سياسي