الإهداءُ العَام General dedication هو ما يكونُ شَاملاً عامَّاً إمَّا للجَمِيْعِ أو لشَيءٍ يَشْتَرِكُ في حُبِّهِ الجَمِيْعُ مثلَ الوَطَنِ أو الأرْضِ، فالرُّؤية تتَّسِعُ وتتَّسِّع أكثرَ إذا كانَ الإهْـدَاءُ للوَطَنِ، أو للجَمَاعَةِ ككلٍّ أو شَخْصِيَّةٍ قَائِدَةٍ رَائِدةٍ، لها أثرُهَا في الحَيَاةِ مثل النَّبِيُّ محمدٌ صلى الله عليه وسَلم أو النَّبِيُّ عيسى عليه السَّلامُ. وهو ما سيتضح من خلال تحليل بعض الإهْـدَاءَاتِ، وفي هذا السِّيَاقِ, طَـرَحَ جيرار جينت سؤالاً محورياً حول المُهدي, وهو مَنْ يهدي أومَنْ يقومُ بعمليةِ الإهْـدَاءِ ؟ “وهذا السُّؤال يَحْمِلُ ـ على الأقلِّ ـ معنيين الأوْلُ تاريِخِي, خارج العَمَلِ, وهو الذي يعبِّرُ عن التَّقربِ ويرجِعُ في الأسَاسِ إلى الأصول اللاتينية التِي لا تَدْخُلُ في حساباتِها الثَّقافة الموازية[…] والمعنى الثَّانِي نَجِدُ الإهداءاتِ أكثَرَ واقعيةً, والتي يعبِّرُ عنها بواقعيةٍ جَادةٍ, مِثَالٌ على ذلك الكاتبُ الفَرَنْسِيُّ ستاندال والذي لم يقمْ بإهداءاتِه إلى القلِّة السُّعداءِ, ولم يقمْ فلوبير إلا بإهداء روايتين وهماmadam Bovary& tentation “. وقد كانَ الإهْـدَاءُ قديماً يُوضَعُ في صَفْحَةِ العنوانِ. و أشَار جيرار جينت في كتابه ,paratexts ,thresholds of interpretation إلى أنَّ الإهداءَ عادةً ما يكونُ في الصَّفحة الثَّـانية, وأدرجَ ذلك في مَعْرَضِ الإجابة عن سُؤالٍ طَرَحَه أيضاً قائلاً أينَ يَضَعُ المؤلِّفُ الإهداءَ ؟. ” فمنذُ نِهَايَةِ القَرْنِ السَّادسِ عَشَرَ كانَ الإهداءُ يُوضَعُ في مقدِّمَةِ الكِتَابِ, أمَّا اليومُ وبطريقةٍ أدَق يُوْضَعُ بعد صَفْحَةِ العِـنْوَانِ. وفي المَرْحَلة الكلاسِيكية ـ كما لاحظناـ كان يُوضع في صَفْحِة العنْوَانِ”. إلا أنَّه, وعلى الرَّغم مما ذكره جيرارجينت في هذا الشَّـأن, فإنَّ هناك بَعْضَ الكتَّاب يضعونَ الإهداءَ في الصَّفحة الثَّـالثة. وقول جيرار جينت يؤكِّـدُ بعضَ الأمورِ؛ منها أنَّ الإهداءَ كان في السَّابقِ يوضع إرضاء لبعض الفئاتِ الفوقـيَّـة صَاحبةِ السُّلطاتِ فكانَ الإهْـدَاءُ لهم بمثابة أنْ يَنَالَ المُهدي رضاهم عليه, خوفاً من بَطْشِهِمِ, وعلى الرَّغم من ذلك فإنَّ هناك بعض الرِّوائيين لم يصدِّروا رواياتِهم بأيةِ إهداءاتٍ, إلا من خلال الإهداءِ المكتوبِ بخطِّ اليد لمن يرغبون في إهدائه مؤلفاتِهم, وهو ما كان موجوداً لدى الرِّوائي جمال الغيطاني, في معظم أعماله الرِّوائية, واكتفى بتَصْدِيْرِ رواياتِه ببعضِ الأقوالِ لمَشَاهيرَ في الشِّعر أو الأدبِ أو الحكمةِ.
لذلك نَأخُذُ مثالَيْنِ على الإهداءِ العَامِ كما هو في كتاب “التَّواصُـل الأدبي بين الشُّعوبِ“للدِّكْتُوْرِيُسْرِي عبدالغني يقول في هذا الإهداء:”لقد خلقنا الله على ظهر هذه الأرض لنتعارف، لنتعاون؛ لنتبادل الآراء والأفكار والخبرات والتجارب ولم يخلقنا لنتطاحن أو نتعارك أو نتحارب.. إلى كُلِّ مُحِبٍّ للكلمةِ الطَّيِّبَةِ.. إلى كُلِّ منْ يُجِلُّ ويُقَدِّرُ، ويَحْتَرِمُ قِيَمَ الحُبِّ والخَيْرِ والجَمَالِ والتَّسَامُحِ وقَـبُولِ الآخرِ .. أُهْـدِي هذا الكِتَابِ”. فالإهداءُ هنا للعَامَّةِ مِـنْ النَّاسِ، ولم يُخَصِّصْ الكاتبُ الإهداءَ لشَخْصٍ بعينِه، خَاصَةً وأنَّ الكِتَابَ يَتَنَاوَلَ عَلاقَاتِ الشُّعُوْبِ مع بعضها البعض في التواصل الذهني الكتابي الأدبي، فكان محقاً في هذا الإهداء الذي ارتبط بالعمل وارتبطَ بالتَّوَاصًلِ بينَ الشُّعوبِ، وكيفَ أنَّ تلك القِيَمَ التي يَتَنَاوَلُها الكاتِبُ في العَمَلِ هي قيمٌ عظيمةٌ دعا إليها جميعُ الأنبياءِ والرُّسُلِ، وإذا ما تناولْنَا إشَارَةَ ذلك الإهْـدَاءَ بعيداً عن وظيفته، فإنَّه يُشِيْرُ إلى مَا بِدَاخِلِ العَمَلِ، ذلك أنَّ المؤلِّفَ قدْ تَنَاوَلَ الأدبَ بكوْنِ أنَّهُ حَلقةٌ للتَّواصُلِ وليس للعِرَاقِ وهو مَا تَوَصَّلَ إليه العِلْمُ في الوَقتِ الحاضِرِ، حين ذَكَرُوا أنَّه لم يَعُدْ يُجدي أنْ نَتَحَدَّثَ عن الأدبِ المقارنِ للمُقَارَنَةِ، بل يَجِبُ علينا جَعْلَهُ أدَبَاً إنْسَانيَّاً مَحْضاً من الإنْسَانِ إلى أخِيْهِ الإنْسَانِ، والكلُّ يكمِّل بعضُه البعضَ، لذلك فقد ذكر الدكتور يسري عبدالغني في كتابه هذا أنَّ الأدَبَ المُقَارَنَ ما هو إلا بيانٌ للرَّوابطِ الأدَبِيَّةِ العَالَمِيَّةِ” وهو لذلك يَقُومُ على وجودِ الصِّلاتِ بينَ اللُّغَاتِ والحُدُوْدِ الجُغْرَافِيَّةِ للأمَمِ والشُّعوبِ، ويلحظ فيه تَبَادلٌ المَوْضُوْعَاتِ والأفكَارِ بَيْـنَ آدابٍ إنسَانيةٍ عدةٍ، وقد أضّافَ المُؤَلِّفُ في هذا العملِ أسْمَاءِ عُلَمَاءِ الأدَبِ المُقَارَنِ، سواءً أكانوا مِـنْ عَالمِنَا العَربي أم العالمِ الغرْبِي الذين أضافوا فعلاً للأمم شَيْئاً يُحسَبُ لهم بتقريبِ البَعِيْدِ المتمثل في الأدبِ العَالَمِي هنا أو هناك مثل العالم الكبير الدكتور محمد غنيمي هلال أحد رواد الدِّرَاسَاتِ المُقَارَنَةِ وكتَابِه القـيِّم “الأدب المقارن” وأستاذنا الدكتور الطاهر أحمد مكي وكتابه القيِّم أيضاً “الأدبُ المقارن” فضلاً عن علماء الأدب الغربي نحو فان تيجم وفرانسوا جوبار. وهناك من اتَّجَه من الكتَّاب العَرَبِ إلى الأدبِ الفَرَنْسِي، وهناك من اتَّجَه إلى الأدبِ الإنْجليزي، ولا يُمْكِنُ بحال من الأحوال أنْ نُنْكِرَ تلك العلاقةَ التي كانتْ وما زالت بين الشَّرْقِ والغَرْبِ، وكيف أنَّ التَّواصل الأدَبِيُّ بينَ الشُّعُوْبِ هو من أفضَلِ أنواعِ التَّواصُلِ، لأنَّه يَرْتَبِطُ بالذَّائقة الأدَبيَّة، كما هو الحالُ في الرِّوايات التي صَوْرَتْ تلك العَلاقَةَ كما في “الحي اللاتيني” لسهيل الإدريسي و”عصفور من الشرق” لتوفيق الحكيم و”قنديل أم هاشم”ليحيى حقي و ” موسم الهجرة إلى الشمال” للطيب صالح وغيرها من الأعمال التي مثَّـلت الثُّنَائِيَّةَ الضِّدْيَّة ( على حد تعبير الدكتورة سيزا قاسم). لذلك كان الإهداءُ العامُ من أجل تقاربِ الشُّعُوبِ، ليس الإهداءُ فَحَسْبُ، بل أيضاً العنوانُ في حد ذاته كان من أجل إعادة النَّظر في التَّواصُلِ بينَ الشُّعوبِ من خلال الأدبِ. ومثال آخر عن الإهداء العام ومن باب الأمانةِ العلمية فقدْ أهدَيْتُ كتابي”الألم في الرِّوَايةِ العَرَبِيَّةِ” إلى العامة من النَّاسِ الذين تألموا، وكان هذا الإهداءُ بمثابة التَّعبير عن الكتاب وعتبةً حقيقيةً للولوج إلى عالمِ النَّـصِّ المَدْرُوسِ، حيثُ حوى الكتابُ أربعين روايةً عبَّرت عن الآلام التي انتابتْ أصحابَها أو تلك التي عبَّر الرِّوائيون عنْ الآلام التي رأوها هنا وهناك. قلتُ في الإهداءِ:” إلى الَّذين تَألموا ولم يجدوا منْ يحنوا عليهم وإلى الشُّعُوْبِ المَقْهُوْرَةِ التي ما زالتْ تَبْحَثُ عن أوطانها” ومنْ الإهداءِ كانَ الانْطِلاقُ نَحْوَ الكتابِ الذي صَدَقَ الإهداء.