1- نبي الله ابراهيم – عليه السلام -:
من الأمثلة العمليَّة التي تدلُّ على تحقُّق هذه القاعد: ما كان مع الخليل إبراهيم – عليه السلام – ذلك الرجل الذي قام بدين الله – عز وجل – خير قيامٍ، فقدَّم بدنه للنيران، وطعامه للضِّيفان، وولده للقُربان، فإنه لما صبَر على البلاء في ذات الله – عز وجل – وألقاه قومه في النار، كان جزاؤه من جِنس عمله؛ ﴿ قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ ﴾ [الأنبياء: 69
ولما سلِم قلبه من الشرك والغِل والأحقاد؛ كان جزاؤه من جِنس عمله؛ ﴿ سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ ﴾ [الصافات: 109
ولما هاجَر وترَك أهله وقرابته ووطنه، أسكَنه الله الأرض المبارَكة، ووهَب له من الولد ما تَقَر به؛ ﴿ وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ ﴾ [الأنبياء: 71، 72]
ولمَّا صبَر الخليل – عليه السلام – على تجريده من ثِيابه على يد الكفار؛ كان جزاؤه من جنس عمله، فإن ((أول مَن يُكسى من الخلائق يوم القيامة إبراهيم))؛ كما أخبَر النبي – صلى الله عليه وسلَّم؛ فعن ابن عباس عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((يحشَر الناس يوم القيامة عُراة غُرْلاً، وأوَّل الخلائق يكسَى إبراهيم – عليه السلام – ثم قرأ: ﴿ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ ﴾ [الأنبياء: 104]))[14].
قال القرطبي في التَّذكِرة: “فيه فضيلةٌ عظيمة لإبراهيم – عليه السلام – وخصوصية له، كما خَصَّ موسى – عليه السلام – بأن النبي – صلى الله عليه وسلم – يَجِده مُتعلِّقًا بساق العرش، مع أن النبي – صلى الله عليه وسلم – أوَّل مَن تنشقُّ عنه الأرض، ولم يلزَم من هذا أن يكون أفضل منه، قال: وتكلَّم العلماء في حكاية تقديم إبراهيم – عليه السلام – في الكِسوة، فروي أنه لم يكن في الأوَّلين والآخرين لله – عز وجل – عبدٌ أخوف من إبراهيم – عليه السلام – فتعجَّل له كِسوته؛ أمانًا له ليطمئن قلبه؛ ويحتمل أن يكون ذلك لما جاء به الحديث من أنه أوَّل من أمَر بلبس السراويل إذا صلى؛ مبالغةً في السِّتر، وحِفظًا لفرْجه أنْ يَمَس مُصلاه، ففعَل ما أمِر به؛ فيُجزى بذلك أن يكون أوَّل مَن يُستر يوم القيامة، ويحتمل أن يكون الذين ألقوه في النار جرَّدوه، ونزَعوا عنه ثيابه على أعين الناس، كما يُفعل بمن يُراد قتْله، وكان ما أصابه من ذلك في ذات الله تعالى، فلما صبَر واحتسَب، وتوكَّل على الله؛ رفَع الله تعالى عنه شرَّ النار في الدنيا والآخرة، وجزاه بذلك العُري أن جعله أول من يدفَع عنه العُري يوم القيامة على رؤوس الأشهاد، وهذا أحسنها[].
2- أم المؤمنين خديجة – رضي الله عنها:
زوج رسول الله – صلى الله عليه وسلم – التي أحسَنت صُحبته، وواسَته بنفسها ومالها، وكانت من السابقين إلى الإسلام؛ فقد جاء جبريل إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – يقول له: ((بشِّر خديجة ببيت في الجنة من قَصَبٍ، لا صخَب فيه ولا نَصَب)).
والقَصَب: هو اللؤلؤ، فبيتُها في الجنة من قصب؛ نظرًا لما كان لها من قَصب السَّبق إلى الإسلام، ثم هو بيتٌ لا صخب فيه ولا نصَب؛ ذلك أنها لم تتلكَّأ في إجابة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كما لم تُحوجه إلى كلام كثير أو رفع صوت، فكان جزاؤها من جنس عملها – رضي الله عنها وأرضاها
3- معذِّبة زِنِّيرَة:
أما زِنِّيرَة – رضي الله عنها – فقد كانتْ أَمَةً لدى واحدة من نساء قريش، شرَح الله صدر زِنِّيرَة للإسلام؛ فآمنتْ وشهِدت شهادة الحق، فكانتْ سيِّدتها تعذِّبها، وتأمر الجواري أن يَضرِبن زِنِّيرَة على رأسها، ففعلنَ حتى ذهب بصرُ زِنِّيرَة! وكانت إذا عطشتْ وطلبت الماء، قُلن لها مُتهكِّمات: الماء أمامك فابحثي عنه، فكانت تتعثَّر، ولما طال عليها العذاب قالت لها سيدتها: إن كان ما تؤمِنين به حقًّا فادعيه يرُد عليك بصرك، فدعتْ ربَّها، فردَّ عليها بصرها، أما سيدتها التي كانت تعذِّبها، فقد لاقتْ شيئًا من جزائها في الدنيا، فإنها أُصيبت بوجعٍ شديد في الرأس، وكان لا يهدأ إلا إذا ضُرِبتْ على رأسها، فظلَّ الجواري يضربْنها على رأسها؛ كي يهدأ الوَجَع حتى ذهَب بصرها، والجزاءُ من جنس العمل!
نعم، أيها المبارك:
مَن خاف على عقِبه وعقِب عقبه، فليتقِ الله، ومَن تعقَّب عورات الناس، تعقَّب الله عورتَه، ومن تعقَّب عورته فضَحَه الله ولو كان في جوف رحِم؛ عن سعيد بن عبدالله بن جريج، عن أبي برزة الأسلمي، قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((يا معشر مَن آمن بلسانه، ولم يدخُل الإيمان قلبه، لا تَغتابوا المسلمين، ولا تتَّبِعوا عوراتهم؛ فإنه من اتَّبع عوراتهم يتَّبع الله عورته، ومَن يتَّبع الله عورته يفضحه في بيته))[].
ومن كان يحرِص على عِرضه، فليحرصْ على أعراض الناس، ومن أراد أن يهتك عِرضه، فليهتِك أعراض الناس، فلذة ساعة غُصَّة إلى قيام الساعة، وكل دين لا بدَّ له مِن وفاء، ودَين الأعراض وفاؤه بالأعراض.
والذين يفرَحون باللَّذة الحرام قليلاً، سيبكون على ما جنَتْ أيديهم كثيرًا في حقِّ أعراضهم، والذين يَخونون حُرمات الناس، يخونون حُرماتهم أولاً، ولكنهم غافِلون عن أمْرهم؛ لأنهم آخر من يعلم.
ولو علِموا الحقَّ لتَواروا عن البشر خجَلاً وعارًا؛ ﴿ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ﴾ [الفجر: 14]، وإنه أعدَل العادلين؛ ﴿ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾ [الروم: 9]
هذا ما أقتضى التنبيه عليه والإشارة إليه، فإن أصبتُ فبتوفيقٍ من الله وفضْله، وإن أخطأتُ فمن نفسي والشيطان، ألْهَمنا الله وإياكم والمسلمين سبيلَ الرشاد، ونفَع بكم البلاد والعباد.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلَّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.